على الرغم من أن أحقية كل شعب محتل فى مقاومة جيش و عادات المستعمر قد حسمتها القوانين والتشريعات والممارسات والفكر الدولي خلال حقبة التخلص من الاستعمار، ما بعد الحرب العالمية الثانية، و على خلفية ما يجري من الاستعدادات للإحتفاء بالذكرى الخامسة و الخمسين لعيد الاستقلال الوطني، يثور جدل حقيقي على المستوى الثقافي و عن وعي كبير بدأ في التوسع تذكيه و تتقاسمه التجاذبات والانتماءات الفكرية المتنوعة؛ جدل خَفي في الغالب و مُعلن أحيانا وإن على نحو خجول حول مقاومة المحتل للأرض و الدخيل على المنظومة الاجتماعية و الحضارية بكل أوجهها و أبعادها. و هو الجدل الذي يكتسب أيضا و في تناقض شديد شكل المراوغة الغير معلنة و كأن كل طرف على حذر يخشى من مآخذ الآخر و إذ المآخذ جمة.
و لأن غياب النسق الزمني المترابط قد خلق خلال الخمس و الخمسين عاما من عمر الدولة، المستقلة في غياب المقومات الأساسية لها، ثقوبا سوداء في مجرة صراع ما قبل الاستقلال بين:
ـ قيام الجمهورية على أنقاض فسيفساء "السيبة" بمرها كما أراد المستعمر الفرنسي معتمدا على من ساعدوه إلى ذلك و قد جاء لأجله و من قبل " اكزافييه كبولاني" صاحب مشروع مدنية الأمة المتخلفة عن ركب الأمم المتحضرة،
ـ و بين المتخندقين وراء حصون بقايا ثقافة المقاومة و الجهاد بما كانت حققته فقط من نجاحات دون ما ضاقت به من انتكاسات حتى خبا وهجها و استسلم مؤيدوها بعد معركة وديان الخروب 1932.
و إن هذه الهوة السحيقة بين محتويين تاريخيين ـ أحدهما ممتدح و ممجد في غلو تارة و اجتزاء تارة أخرى، و ثانيهما مُقزم و رافض مشكك، و ما كان للطرفين أو التيارين لو أنصفا إلا أن يشكلا مادة تاريخية غزيرة و دسمة للباحثين و المؤرخين و المؤلفين و التربويين ـ و قد اتسعت في اتجاهات متضاربة مما زاد عمقها اتساعا و تناقضها حدة حتى لم ينل هذا التاريخ الذي تراد كتابته لهذه المقاومة ما يستحق من الاهتمام و نفض للغبار و من التدوين و التمحيص الضروريين لإيداعه تاريخا سائغا سلسا و منسابا باتجاه القنوات المصفية حتى أن يكون خاليا من الالتواءات المصطنعة، و يودع سجل المادة التربوية و ضمن البرامج التعليمية المنبثقة عنها اعترافا بها وبحقها واستحقاقاتها.
و إذ الأمر أخذ هذا المنحى فإن الاهتمام بالمقامة عانى سطوة كل من هب و دب ليزيد فيه بميزاجية قبلية و عشائرية مقيتة و طافحة برائحة و إملاءات "السيبة" المعشعشة في النفوس و المحبطة لفعل التحضر. و لكن وعلى ذكر التحضر غاية عليا، فإن الفريق المشكك قد أسرف في بحثه عن ملامح هذا التحضر بأن تجاوز أكثرها بهاء وجلالا و أعلاها قيمة فيما هو عند أهل هذه البلاد و مستقى من الإسلام الحنيف العظيم، ذلك بأن المنظومة الأخلاقية و التعاملية ـ و إن كانت مشوبة ببعض عادات و فعال جاهلية لم تنقض مطلقا و قد تجلت في مظاهر من الظلم و الغبن طالت شرائح و مكونات و خلقت تراتبية إقطاعية بغيضة ـ قابلة للتكيف مع كل معطيات و متطلبات الالتحام بموجة التحضر التي اجتاحت العالم من حول البلد. و عوضا عن النضال في سبيل هذا التوجه الذي تفرض نهجه التحولات العالمية المتلاحقة منذ تلك الفترة بإرساء ثوابت التميز و الخصوصية و الإثراء المحفوظة في المنظومة المحلية القيمة بشهادة المستعمر نفسه، فقد كان توجه أغلب هؤلاء المشككين إلى نفي للذات الوطنية و الارتماء بانبهار زائد في أحضان المشروع "الكبولاني" الموجه إلى مسخ حضاري شامل و استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير.
و لا يعذر مطلقا هذا التيار بما كان عليه و لا يزال من عدم القدرة على فصل الغث من تاريخ المقاومة المجيدة من سمينه الذي مكث في الأرض أثرا خالدا و في النفوس مجدا عاليا و في صفحة الزمن نبراسا مضيئا. كما لا يعذر التياران في تماديهما على السير منفردين في خطين متوازيين لا يلتقيان و على تفويتهما بذلك فرصة الغربلة التي تتطلبها المرحلة لإدراج مرحلة الاستعمار و ما تلاها من قيام الدولة في مادة التاريخ ضمن المنظومة التربوية.