الحراك الجديد والنبيذ القديم والثورة التي لم تأت بعد

عبير ياسين

تعيد الأوضاع التي تشهدها مصر الكثير من أجواء ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 إلى الواجهة، بما فيها الشعور بتعدد الأحداث وترقب اللحظة المقبلة، والخطوة التي قد تتبعها تغييرات غير متوقعة، والمخاوف والآمال الكبرى.
مخاوف وآمال مشروعة، لأن الواقع يقول ليس كل ما يعاد جميلا، وليس كل ما نستحضره من ذكريات يناير دليل نجاح، وإلا ما كنا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، من إعادة لمشاهد الكر والفر، والقهر والعنف، والثورة والغضب. وإن كانت الأحداث تؤكد على تحقيق إنجاز مهم في اللحظة فهو الإنجاز الذي عبر عنه الشاعر تميم البرغوثي بقوله: «شعب بغزالة اتخنق قلب التاريخ في يومين.. لابس عباية جحا وهو صلاح الدين.. بيكرم الأنبيا ويهزأ السلاطين». مؤكدا على قيمة ما حدث في يناير وما تبعه في سبتمبر/ أيلول 2019، ويعيد تذكير الجميع بصعوبة إدراك اللحظة التالية، وأن القرار ليس حكرا على أصحاب الألقاب والكراسي، لأن الشعب بوصفه صاحب السلطة يملك في لحظةٍ تغيير المشهد وتفاصيله، وإن كان هذا التغيير يمكن أن يحدث بشكل تدريجي، ومن دون مقدمات واضحة، فما بالك عندما تتراكم المقدمات في فترة زمنية قصيرة، محملة بالتفاصيل التي تؤيد الغضب، ومحاولات الرد والإلهاء التي تزيده، وكأنها مجرد وقود لنيران الغضب الشعبي.
ولكن مع هذا التأكيد لابد أن تظل دروس يناير حاضرة، خاصة وسط معارك الإلهاء القائمة، التي تهدف إلى تفريغ الجهد والاهتمام المفترض بالقضية المحورية، وهي المكاشفة والمحاسبة، إلى معارك جانبية يفترض ألا تغير من أصل الصورة وقصد الرسالة، التي ربطت بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي علنا، وشعار يناير الشهير «أرحل».
تبدأ طرق التعامل وفقا لبعض الترتيبات القديمة، بداية من خطاب ديني يطالب بالطاعة للحاكم، إلى خطاب أحزاب يقحم نفسه في مشهد التطورات القائمة، وكأن كل ما يرغب في تحقيقه هو تذكير الشعب بأن هناك أحزابا، ولكن ما تؤكد عليه أيضا تلك المواقف والبيانات المعلنة، أن تلك الأحزاب تقف خارج السياق اليومي للأحداث، وخارج الضرورات التي يفترضها عالم التنافس من أجل الوصول للسلطة، بما يفترضه من التعبير عن مصالح الجماهير والدفاع عنها سواء داخل البرلمان أو خارجه، كما تعرف الأحزاب وأدوارها في النظم الديمقراطية. وبدلا من أن تظهر تلك الأحزاب وغيرها بداية من نشر تسجيلات، أو بصورة أصح اتهامات الممثل ورجل الأعمال محمد علي، الخاصة بسوء استخدام السلطة، لتعلن موقفها المؤيد لمصالح الشعب، وتطالب بالمكاشفة والمحاسبة، ظهرت فجأة عندما دخلت الجماهير في معادلة الاتهامات والرد المفترض، عبر مطالبتها بالخروج في موقف أشبه ما يمثل في الحياة السياسية بالاستفتاء على السياسات، أو المواقف في تلك الحالة، ممثلة في موقف علي واستمراره في ما يقوم به عبر وجوده في الأحداث أو خروجه من المشهد.
بدورها ظهرت تلك الأحزاب والأسماء، التي تم الاعتماد عليها في عملية المواجهة أو الإلهاء مع بداية الخروج الشعبي، أو ما أطلق عليه البعض بداية الانتفاضة الشعبية، لتعلن أنها مازالت حية، وأنها تطالب بتنفيذ القانون في ما يتعلق بالكشف عن الفساد ومحاسبته، من دون أن تتجاوز عن إعلان ما هو أهم بالنسبة لها في البداية وهو، المطالبة باحترام الدولة والسلطة، وعدم تهديد وحدة البلاد، ووصل الأمر بأحد تلك الأحزاب إلى المطالبة بحل القضية عبر الطريقة التي تتبعها السلطة، ممثلة في عقد مؤتمر اقتصادي ومؤتمر سياسي وكأن كل المؤتمرات التي عقدت وتعقد قد أصلحت الأحوال حقا، ولم تكن فرصة أخرى لحمل الميكروفون والتقاط الصور وإهدار الموارد، والنبيذ القديم نفسه، من دون الاهتمام بالزجاجات وعمرها الافتراضي.
تبدو الصورة مكررة، مع اختلافات تستوقف البحث والدراسة المعمقة عن تغييرات المواقف ما بين يناير 2011 وسبتمبر 2019، في ما يتعلق برؤية الوطن والشعب والسلطة، وفي العمق الخطوط التي يسمح بتجاوزها، والتي يمكن التساهل معها، وتلك الخطوط الحمر، التي لا تمس، والتي تقدم دوما بوصفها الدولة، وفي العمق هي الدولة المعرفة بوصفها النظام، والنظام المعرف بوصفه الفرد، من دون أن نسقط في فخ تعريف الحراك القائم بوصفه ثورة، حتى لا نسقط مرة أخرى في فخ «ثورة الغلابة»، التي أعلن عنها في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 والتي تم تضخيمها من قبل النظام واستثمار فشلها المفترض بعد هذا، لتأكيد فشل شعارات الثورة من جانب وشعبية الحاكم وسياسات السلطة من جانب آخر.

عالم ما بعد 25 يناير ليس ما قبله، والشعوب غير مؤهلة للقبول بعقود انتظار أخرى حتى تطالب برحيل الظلم والفساد

يظل من المهم التأكيد على الفارق الكبير، الذي يغيب عن تناول إعلام السلطة وكل من يؤيد بقاء الأحوال كما هي عليه، من أجل المصلحة الشخصية، وليس المصلحة العامة ومصلحة الدولة، بالتأكيد على أن الدولة ليست السلطة، والسلطة ليست الفرد، والجيش ليس بعض الأسماء التي تتصدر المشهد، كما هو حال المؤسسات التي لا ترتبط الدعوات بتغيير من يمثلها، أو طرق إدارتها بإسقاطها، لان هناك تمييزا مهما يتم إسقاطه عندما تغيب الديمقراطية، من أجل حماية المناصب، واستمرار الأحوال القائمة، في حين أن الحاكم يعتمد في النهاية على تأسيس تلك الصورة التي تؤكد أنه الدولة، والأفراد هم المؤسسات، ويصبح كل تغيير مطلوب بمثابة إسقاط للدولة، وكل إصلاح مستهدف بمثابة إسقاط للمؤسسات، ومساس بحالتها النفسية، ودعم للفوضى بالمخالفة للحقائق التي تغيب المواطن والوطن ومصالحه في تلك التعريفات وعملية تأسيسها ترسيخها.
غابت عن المشهد وظهرت فجأة أيضا أسماء ظهرت واكتسبت شهرتها من وعلى حساب 25 يناير في الكثير من الأحيان، وهي ترتدي ثوب الديمقراطية وتتقرب من الثورة، وتحاول الحديث باسمها، سواء بعد فترة انقطاع أو من خارج الصفوف، وسواء أكانت الطريقة هي السخرية أو الخطابات التي تبدو أكاديمية ومتزنة، وتتحدث من عالم التحليلات المعمقة، والقراءة الدقيقة، قبل أن يسقط كل هذا مع مرور الوقت، بعد الخضوع لحسابات الزمن ودوره في كشف الحقيقة، حين كان على تلك الاسماء أن تغير الموجة أو تقفز من قارب إلى آخر، وهي تعيد صياغة المبررات والتفسيرات من أجل البقاء والنمو والازدهار على حساب الجماهير، التي آمنت بها يوما ورفعتها إلى تلك المرتبة العالية.
وبعد أن تغير العديد من مواقف تلك الأسماء، بداية من دعم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك وأسرته، إلى دعم ما بعده، من دون أن تقبل كل الصفات السلبية التي ألصقت بها، أو جاء بعضها من خارج الصفوف تماما عبر الارتباط قصير الأجل بثورة يناير، تجد تلك الأسماء أن هناك مبررات لرفض خطاب محمد علي، والمكانة التي بات يشغلها في المشهد المصري، لانه جاء من خارج عالم السياسة، أو من عالم قريب من السلطة ومصالحها، أو لأنه وفقا للبعض من «العامة» من هؤلاء «الحرافيش» والجموع التي تظهر من دون أن يكون لها تأثير محدد، معبرة بهذا عن رؤية للجماهير لا تختلف عن رؤية السلطة التي تتعامل مع الجماهير بوصفهم «الكتلة الصلبة» التي تؤيد السلطة وتظهر بوصفها الجموع عندما تطالبها السلطة بذلك، من أجل تفويض أو انتخابات، ولكنها لا تقبل بها عندما تكون جموعا رافضة وثائرة وغاضبة ومطالبة بالمكاشفة والمحاسبة.
سُئل جلال الدين الرومي يوما «ما هو السم؟ فقال كل شيء يزيد عن الحاجة هو سم، قد يكون قوة أو ثروة أو جوعا أو أنانية أو طمعا أو كسلا أو حبا أو طموحا أو كراهية أو أي شيء»، وبالطريقة نفسها يمكن القول، إننا ندفع ثمن السم في حياتنا مع خليط من الزيادة في العديد من تلك الصفات، ندرك ما تفعله القوة المفرطة والإحساس بالفهم المتفرد وسيطرة الكراهية والجوع للثروة وغيرها على الدول. وبدلا من أن يدرك البعض أن ما يعلنه محمد علي لا يتعلق بشخصه، بقدر ما يتعلق بالاتهامات التي يوجهها، والتي تفسر للناس بدورها أسباب المعاناة والجوع والفقر، وتفسر كيف أن المعاناة ليست ضرورة حالة واقع بقدر ما هي ضرورة من أجل دفع ثمن رفاهية البعض، وهو الأمر الذي يحرك الجماهير بسبب الإحساس بالظلم القائم بالفعل، الذي لم تخلقه أحاديث محمد علي أو غيره، بقدر ما كشفت عنه، يتم التجاوز عن كل هذا ومحاولة تشويه الشخص وتقديم بلاغات ضد من يتحدث، من دون تفنيد تلك الاتهامات كما يفترض وهو ما يولد المزيد من أسباب الغضب والثورة.
تتجاوز السلطة في تعاملها مع الاتهامات المعلنة، والغضب المعبر عنه بأكثر من طريقة وصورة، أن الدولة لا تقوم على حماية الفساد ولكن على محاسبته، ولا تقوم على سوء تخصيص الموارد، ولكن على حمايتها والرشادة في استخدامها، تتجاوز كل هذا وهي تركز على التعامل مع الأحداث بالنبيذ القديم، سواء أكانت الوجوه جديدة أو قديمة. وفي الوقت الذي تسقط الدولة في هذا الخطأ علينا إلا نسقط في خطأ آخر وهو محاولة تضخيم ما حدث والتركيز على البعد الأكثر أهمية للحدث، بغض النظر عن عدد من شارك فيه، وأن حراك الجماهير والخروج من دائرة الاستماع للفرد دون غيره، أو الإيمان بالرأي دون التعبير عنه، والخروج من دائرة الإلهاء والمعارك الجانبية هي الخطوة المهمة، التي تحققت حتى اللحظة، وأن الثورة بما تشمله من تغيير حقيقي للسلطة والآليات الحاكمة لم تتحقق بعد وربما لم تتوافر عناصرها بعد، ولكن يظل المؤكد أن عالم ما بعد 25 يناير ليس ما قبله، وأن الشعوب غير مؤهلة للقبول بعقود انتظار أخرى حتى تطالب برحيل الظلم والفساد، وإن «هانت وبانت» التي أطلقها البرغوثي تظل مفتوحة في انتظار فجر جديد قد يتأخر من دون أن يغيب.
كاتبة مصرية

القدس العربي

ثلاثاء, 24/09/2019 - 10:10