في الثناء على التمحرم السياسي

جمعة, 2015-05-15 16:46
أبو العباس إبرهام

يُقال-حقاً برأيي- أن حزب "النداء الوطني"، المعروف بـ"نو" هو حزبٌ يميني. وحتى الذين لا يعترفون بثنائيات اليمين واليسار (مع أنّهم يعترفون بلا استحياء بثنائيات المحافظة والتحرر والصقور والحمائم والديمقراطية والديكتاتورية، وفي الحقيقة يتكلمون، ليس بلغة السلطانية، وإنّما من داخل لغة الحداثة السياسية) يعتقدون أيضاً أنّه حزبٌ يميني. وقد حصلت لي معرفةٌ بزعيم حزب "نو" منذ سنوات. لكن الحقيقة أنّني عرفته، ليس في تنظيمات "موريتانيا الفتاة" أو "القمصان السود" أو "شبيبة هتلر" أو "عبد الحميد الثاني"، وإنّما- تهيّأواـ في أوساط أصدقاء يساريين! كانوا كما يقول القول الدّارج: "بكط". كفاً بكَفٍّ.

وعلى خلافي مع زعيم حزب "نو" إلاّ أنّه، رغم حرصه على الخلاف معي (وقد ردّ عليّ بمقالٍ مكتوب منذ سنوات دفاعاً عن الجنرال عزيز عندما، كما دأبي، انتقدته) قد حرصَ على مدّ يد الصداقة لي. وأنا أصلاً رجلُ صداقة.

وما أريدُ قولَهُ هنا هو الثناء على الطابع العائلي والصداقي للسياسة مع الاحتفاظ بالاختلاف والتخالف. فأنا أخو حرب وأبو خنجر. ولكنني لستُ صاحبَ سبٍّ؛ وكما قُلتُ سابقاً ففي صغري كنتُ قارئ كوميكس مجد وكنتُ، هكذا، ربيبَ "البارون الأحمر". وكانت عبارتُه المأثورة لدي هي: "نحنُ نسورٌ لا نتقاتلُ إلاّ في السماء". أنا مع القتال؛ وقد كتبتُه على نفسي، ولكن فقط في الميدان.

وللأمانة فليست العلاقات بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة في موريتانيا علاقاتٌ البرجية والبحرية؛ وإنّما هم ذريةٌ بعضها من بعضٍ؛ ولا يوجدُ فيهم صقورٌ وحمائم، وإنما هم خِلاّنٌ وأقرانٌ فرّقهم الكسب والتحليل. وقد جمَعَهُم "أطاجين الضُّحى" وفرقّتهم "طوابير الإدارة". ولعلّ هذا طاقية نجاة للسياسة عندنا.

ويُقالُ أنّني سياسي فاشل. ولقد بولِغَ أحياناً في أوساطٍ خاصة في هذا بحيثُ أن مُحدِّثاً كبيراً ممن يكتري أذنه للقوّالين كتبَ مرّةً إنّ سبب عدائي للإسلاميين هو أنّهم هزموني في انتخابات طُلاّبية. وقد فاتَ على طّيِّب الذِّكر أن هذا لا يُفسِّرُ دخولي في انتخاباتٍ ضدّهم، إذ لا يُمكنُهم أن يهزموني قبل أن أجابهَهُم (هذا عدا أنّهم لم يهزمونني في انتخابات، كما قصد). وما علينا! المهمُ أنّ هناك من يرى أنّني غبيٌّ في السياسة؛ ولكن كان من سياستي، أيامَ كانت لي سياسة، أنني أنزلتُ سياسة "التمحرم" مع أعدائي لأن السياسة في وسطِ الصداقة ضرورية لنفيِّ الشيطنة؛ وهذا في حدِّ ذاتِه يهزم الراديكالية. وإذا كان أعداؤك راديكاليون اشرب معهم الشاي؛ وهنالك لن يُشاهِدوا وحشاً. ومن المهم أن تتركَ الإشاعة تعتملُ أنّك كلب؛ ثم اظهر في اللحظة المناسبة بدون مكياج.

ورأيي أن الأنسنة من الأنس؛ وأن الاختلاط معينٌ على درء السباب والأحقاد.

والحالُ هذا، دعني أختم بتعكير المزاج. فبعضُ، وليس كُلُّ، اليمين واليسار بالبلد "متمحرمون" وأكتافهم متمازجة، لذا فعداواتُهم فكرية وليست مجالسية. ولكن للأسف لا توجد علاقات عوائلية الآن بين اليمين البيضاني واليمين الحرطاني؛ بل وإن جغرافية البيضان والحراطين أصبحت متباعدة ومُتفكِّكة. وليست "إيرا" غيرَ ترجمة افصام اجتماعي قائم. وقد كان المناضل بيرام ولد ااعبيدي صديقاً للمعارضة وجزءً من المجتمع السياسي. ولكن المجتمع السياسي البيضاني نبذه في 2012، عندما حاول "سرقة" ثورة المعارضة عن طريق استباقها بـ"محرقة الكتب المالكية" فتبرؤا منه جملةً ونفوه، مع كلِّ حركته، من مجالسهم. فنشأتْ حركة سياسية لا تجمعها تجربة ميدانية مع المعارضة الأم، بل وتراها مجرّدَ فصيل عرقي. وأسّسوا لقطيعة بيضانية حرطانية. ولم يكن غريباً، وإن كان مُستنكراً طبعاً، هجوم بعض غلمان اليمين الحرطاني على الزعيم التاريخي للمعارضة.

لقد ارتكبت المعارضة جريمة الفصل الجداري بين المعارضة دون وعيٍّ بحساسية الفصل، لأنّه فصل عنصريٌ. وقد أهدى النِّظام للمعارضة العودة للصلح مع بيرام فألقت بمطلب إطلاق سراحه (وبدون ادعاء الملكية فقد شرّفني أنّني كنتُ من أوائل من دافع عن هذه الفكرة).

ولكن المعارضة قامت بنفس الخطأ عندما حاولت تجاوزَ مسعود ولد بولخير، وهو- للأمانة- صاحبُ فكرة حوارٍ تاريخي بين المعارضة والنِّظام، وقد دعا له لأسباب وطنية، وإن لا ثورية وشبه عشائرية. ولقد أرادت المعارضة إيقافه في الشّمس انتقاماً وتأديباً عن طريق تجاوزه وتجاهُلِه. وغضبُ الرّجل بيِّن. ولكنّه، وهو زعيمٌ وفاق، لن يقبلَ أن يُخرج من أي مشروع وفاق. ويمكن للصغار استغلال نزقٍ بشخصيته للسخرية منه والرّقصُ على جسده واللغو في غضبه والتّهكم من زبده. إنّهم بهذا يخدمون تطهيره من السياسة. وهو ثورٌ أبيض.