صحيحٌ أنَّ ثمة جوٌّ تطبيليٌّ مُنفِر. ويبعثُنا على الخجل من ذواتِنا، إنْ كانت لنا بصيرة تُشعرنا بمدى بؤس حالنا. نجدُ هذا خاصةً في الفترة الحالية، أيْ فترة الزيارات الرئاسية للدّاخل المحلي، التي يُمكنُ اعتبارُها، علاوةً عليها فترة الانتخابات الصورية الأحادية، أكثر الفترات كارثيّة، من حيثُ كمّ التطبيل العالي للحاكِم الفاسِد. لكن هل هذا يعني أنَّ حقيقتنا التاريخيّة الثقافية المحضة، كشعب، في شكله الفرديّ/ المُواطِني، هي أننا شعبٌ يلعقُ أحذيّة السلطان والأنظمة المُتحكمة المُتعفنة بتلّذذ مرضيّ؟
إنني أرى بأنَّ اعتبار المُمارسات التطبيليّة من قِبلِ النّاس، للنظام الخيمَهْليِّ المُتحكمِّ، هُنا. شيئاً طبيعياً، يجبُ بالضرورةِ إحترام حدوثِه، كصورة واقعيّة، ذاتَ أصالة جذوريّة قديمة في التقليد المحليّ السيّءِ السًّمعة، منذُ المُستعمر، مروراً بالمرحلة الطائعية المأساوية، حتى زمنُ الجنرال عزيز العقيم الرّاهن. ماهو في صورتِه الأعمق، مابعد الظاهرة، إلا نوعاً من أنواعِ الإقرار العاجِز، و التسليم العدميّ السلبيّ الكثيرة، المُتكاثرة، أمام هيمنة الشكل السائد لهذا الحال الكارِثيّ. بحيثُ أنه يصبِحُ بإمكاننا، بسهولةٍ تامةٍ جداً، الامساكُ بالشعار الضمني لذلكَ الإقرار العدمي، وهو شِعارٌ خجولٌ يخشى الإعلان عن نفسه، بدايةً ونهايةً، أمام نفسِه في المرآه، وأمام الآخرين أيضاً. وذلكَ الشِّعار الضمني المُتجسِّد هُناك في ذلك الإقرار العدميّ، هو ياللخيبة الصادِمة: " إننا غارقون حتى الأنف في أزمة الواقع. ولا إمكانية أملٍ تكمنُ في الأفق تقولُ بأنَّ إنقاذنا من الضياع غرقاً في هذا الطوفان النّوحي الشامِل كُل شيءٍ. نحنُ ضائعون، أيْ نعم. هذه هي الحقيقة. وحالنا مُتوقِف التشكل هنا. أي أنَّ هذه الصورة هي الصورة النهائية له، مايعني أننا متأبدّون هنا فيه وعليه، ولن يكون لنا مُستقبلاً مُختلفاً مُطلقاً. لذا، يجبُ التسليم النكوصي أمام هيمنة هذا الحال. والنّظر فيه بعينان زائغتان دهشةً لايجدُ صاحبهما إمكانية التنفس المُريح، وهو الغارقُ حتى الأنف"!
ومما يُحزِنُ حقاً أنَّك ترى صورة هذا الاعتراف العدمي الحقيقية لدى البعضِ هُنا، فالفردُ من تلك البعضيّة، رغم صِدق مُعارضتِه الراديكالية، تجدُه في تعليقاتِه اليومية على سفريات الجنرال الكرنفالية العبثية للدّاخِل المحلي، يتطرّفُ في القولِ بحسرة: إننا شعبُ المليون مُصفق، على نحوٍ مُخجل، للحاكِم، وذلك حالنا منذُ عقود؛ مايجعل مثالَ حالتِه، كمُعارض راديكالي صاِدِق، بالضرورة المنطقيّة، يُأخذُ استثناءً من الأصَل. كالقولِ عنه " إن غالبية الناس العُظمى هُنا تُصفِقُ للحاكِم، لكن فُلانا (هو) يشذُ عن حالِ أولئكَ الناس". وهو شيءٌ، لو أنه يتفكّر بعمق، يُعرقِلُ عمليّة التغيير التي يطمحُ لها. بل إنه يُشِّجع بشكلٍ لاواعٍ عل بقاء الحال على ماهو عليه، سواءٌ في وعي الناس، أو عند الحاكِم، لأنه يقِرُّ له بشرعيّةٍ عامّة، لدى غالبية النّاس، لدليلٍ أنها تُصفقُّ له. وهي خدمة عظمى منه لسلطة الحاكم الفاسِدة تلك وتشويه تفنيدي غير مُتعمد لمعارضتِه هو الراديكالية، وإن كان لايعقِلُ ذلك تمام العقل. لأنه حين أقرَّ للحاكم بدايةً بقبول لدى مُعظم النّاس، في حيز الوطن. قام بشكلٍ لا إراديّ بإزالة المعنى عن مُعارضتِه للحاكم-النظام، وتفريغها من مدلولها الأخلاقي-السياسي، البادي في حديثه، كمناضل مُعارض، عن الشعب وحمله لهمومِه ومُعاناتِه، وكذلكَ المُطالبة بحقوقِه.
وليسَ من المُستبعد في العموم، أن تكون الأنظمة القبائلية-العسكرية، على مرِّ تاريخنا الوطني المعطوب، رّسخت هذه الأسطورة السيئة، في أذهان الناس، عن طريق مُساعدة قنواتها القبلية والفقهية التقليدية ذات الأذرع الأحطبوطية العميقة. سعياً منها لتأمين وجودِها، بغزوها ذاك لقناعات الناس/المواطنين. وتزييف وعيهم. فاعتقادُ مواطِن ما أنَّ عامة الناس مناصِرةٌ للنظام المُتحكّم، ومُستعدة لأن تفديه بأرواحِها الجماعية، يجعله يُفكِّر مراتٍ عديدة، قبل القدوم على مُعارضة ذلك النظام المُتسلِّط، لأنه حينذاك، بمُعارضتِه له، يحكمُ على نفسه بالنفي على الهامِش الأقلوي. خاصةً إذا كان ذلك المُواطِن يعتقِدُ بالقبيلة، كحاضنة اجتماعية، وكان غالبية أولئك الناس، من المُشاركين له الانتماء إلى قبيلتِه، هذا، إذْ ذاكَ يكونَ قد حكم على نفسه بالموت الاجتماعي.
في الأخير، يجبُ القول بأنَّ مانراهُ العين في الدّاخل المحلي، هذه الأيام الصعيبة، من الجموع والحشود الساعية لاستقبال الجنرال وموكبه، عند كل نقطة توقف " فركانية"، يجعلنا نُعيد تكرار النّظر مراتٍ عديدة في الأسطورة الكذبيّة القائلة بأننا " شعبٌ مجبول على التطبيل" منذُ كان، وسيكون. وهي أسطورة لايخفى المنحى التضليلي فيها، على ذي بصيرة. وهو منحىً يسعى لقتلِ الأمل (الثوري، في صيغة ما، يقتاتُ على الأمل، كما يخبرنا تشومسكي في حديثه العلماني عن رهان باسكال) في كلِّ طامح إلى التغيير الجذري، بقوله له: " انظرْ. هذا الواقع، وسيكون هكذا، ولاشيء آخر". علاوةً على ذلك، فتلك الجموع والحشود، في غالبيتها، لم تدخل بعدُ حيز الوعي السياسي، الأمرُ الذي لايجعل لموضوع توظيفها داخل المجال السياسي الصِراعي، أيُّ معنىً هامّ. فهي في الأساس الأول، مادة للانقياد القبليّ. أيْ أنها حشود موجودةٌ بغيرها، لامستقلُّة بذاتِها، لكونَها مُوّجهة بشكلٍ أعمى من جهةٍ مشيخية عليا. إنها جماهير ماقبل الوطن، جماهير الرّابطة الدموية، المسلوبة الوعي. جماهير الجدّ الأوّل. وهي لاتُبالي إنْ جُعلِتْ مادةً للتوظيف السياسي البُرغماتي، من قبل المشيخة القبليّة لها، والتي تُشكِّل حاضنةً اجتماعية وجودية لها. لاتُبالي، إنْ جعلتْ منها، فيما بعد مادةً إعلانية، على قناة شنقيط الخيمهليّة، داخل الصراع القبائلي التافِه.
كذلك، لربّما، إذا ماتمَّ تحريرُ كل هذه الحشود من ربقة الدّم الُمُقدّس، أصبحَ من المُمكِن إدخالها مجال الصراع السياسي، حيثُ نسبة التسليع البرغماتي لها أقلَّ قليلاً مما كانَ قبلُ. ومن هنالِكَ إضافتها لفئة المثقفين والفقهاء، التي قدّمت رقبتها بشكلٍ ولائي واعٍ للنّظام المُتحكم في ضُحى النّهار العلني، و على نحوٍ يُشبه العبادة التأليهية الخالصة. التي يجبُ السؤال معها: أين ذهب الخجل؟
نقلا عن صفحة الكاتب على الفيس بوك