أطلب منكم، و أنا بَشَر غير مُنَزّه عن الخطإ المُسَامحة و المعْذِرة و الصَّفح عن كل تقصير ارتكَبْتُه في حقّكم بكلمة أو فعل”. بهذه العبارة ختم الرئيس الجزائري رسالته إلى الشعب الجزائري، عبارة يلتمس بها المعذرة والغفران و كل ما بدا منه، طوال عهداته الأربع، من تقصير و ضعف و تجاوزات في تدبير شأن الجزائريين و الجزائريات. الحقيقة أن محتوى الرسالة لا تشفع له إطلاقا أن يلتمس الصفح و التكفير عن ذنوبه و خطاياه حيال الجزائر و الجزائريين لأن غافر الذنوب هو الله يوم الحساب و العقاب، لكن الرئيس يؤمن فعلا أن في هذه الدنيا يوجد من له القدرة على مسح الذنوب و الصفح عن المنكرات والأخطاء، و حاول أن يحكم و في النعش، بعد ما صار الرئيس الكفن.
في مقال سابق، ورد تحت عنوان ” الجيش و الشعب ، المواجهة السارة”، أشرنا إلى إن اللحظة الراهنة التي تمر بها الجزائر، بعد ما استعاد الشعب سلطته، تلح على أن يبادر الجيش إلى التَّحَول من حكم الجنرالات إلى الحكم المؤسسة العسكرية، و الأمر مواتي جدّا بعد ما صارت المواجه إلى الطرفين الأساسين الذي يعنيهما مصير الجزائر. هناك الجهة التي أخطئت في حق الجزائر و الجزائريين، جانفي/ يناير 1992، عندما أقدم الجيش على الإنقلاب على أول انتخابات ديمقراطية في تاريخ الجزائر، و ما أسفر عن هذا الحدث المدلهم من تداعيات مأساوية مروعة ، أخطرها و أفزعها تنصيب بوتفليقة كرئيس قسري على الجزائر. و هناك الجهة الثانية و هي الشعب التي تضررت من حكم الجيش و انصرفت إلى حالها تدبر أمرها بعيداً عن سلطة الجيش.
وعليه، و في هذه اللحظة التاريخية التي تكثف مصير الجزائر و الجزائريين، يقرأ الشعب “رسالة الغفران” على أنها تعبير عن قوة سلمية الحراك في استدراج من أخطئوا في حق الشعب إلى الامتثال أمامه لطلب العفو و الصفح و التكفير عمّا بدا منهم. فقد صدرت الرسالة من أعلى مسئول في الجيش الجزائر، وزير الدفاع في الدولة يريد أن يتحلّل من آثام الحكم و الإجرام في حق الدولة و المجتمع ، يلتمس طي صفحة الفساد العارم و الإدارة الفاسدة و الحكم الطاغي، كل ذلك من الشعب في لحظة استعادة سلطته. و هذه أول خطوات المواجهة السارة ، عندما ينزل الجيش من كبريائه الصّلف و مكابرته الوهمية و خيالئه الأسطوري، عندما يتعرى من كل ذلك يصبح بالإمكان أن ينشد الجميع الطريق الصائب إلى إرساء معالم الدولة الجزائرية ذات النظام الديمقراطي، السبيل الأفضل و الأضمن إلى تجديد هياكل و مفاصل الدولة و المجتمع و ثقافتهما.
تكشف “رسالة الغفران” أن السيد الرئيس لم يكن يؤمن بالقانون و لا بالمؤسسات الدستورية و لا بما هو متعارف من أصول المعاملات العامة، ما دام هناك جهة في هذه الدنيا تستطيع أن تمحو الخطيئة و تصفح عن الذنب مهم عظم، و تَقْدِر على تطهير الإثم مهما كبر . فعندما اعتلى العرش بتزكية من الجيش و ترتيب منه ، خرج الرئيس عن طوق معاملات البشر و تعالى عنه ليتركه و شأنه مع قوانين الدنيا التي تفترض وجود الجرائم و الجنح و المخالفات و ما يعادلها من عقوبات و جزاءات، أما السيد الرئيس فله شيوخ الطرق و الزوايا و آل المرابطية و الشَّوَّافين و الشَّوَّافات و قرّاء الطالع و أوراق الميسر التي تصفح عن ما بدا منه ، و بإمكانه أن يبني أرقى الزوايا و المساجد يقايض بها الله بما يسمح له من الانفلات من الحساب و العقاب. و قد لاحظ الجميع الطريقة التي فلت منها وزير الطاقة السابق شكيب خليل من وجه العدالة، و أقتصر الأمر أن أحاله السيد الرئيس على شيوخ الزوايا لكي تمسح له و تقرأ عليه ما يطهّره في الدنيا و الآخرة، و يستعيد حياته من جديد كيوم ولدته أمه. نعم هذا ما يؤمن به السيد الرئيس.
“رسالة الغُفران” هي بمثابة تغريدة البجع الأخيرة ، عندما يريد أن يستأذن بالرحيل الأبدي. غير أن صاحبها أخطأ العنوان ، لأن الشعب يقرر مصيره في هذه الدنيا أما مسألة الغفران و الصفح و المعذرة فهي لله فقط، و هذا ما يؤمن به الإنسان العادي و البسيط الذي يُعقل حديثه في أدنى عبارته . و الشعب عندما تلقى الرسالة فلم يفهم منها إلا جانبها المتعلق بالجيش الذي ينزع كل ما كان يتدثر به و يخاتل به الشعب و يرافقه من أجل النجاة و الخلاص. تلك هي حقيقة ما يجري في الساحات و الميادين العامة حيث تطرح قضايا الدولة و المجتمع بمصطلحات السياسة و الإقتصاد و الإجتماع الإنساني و لا تضمر أي معاني أخرى غير معاني الحق و القانون .
انخراط الجيش في مسار جديد يُحَدّده هذه المرة الشعب، هو تغيير موقف قيادة أركان الجيش من خطابها المتغطرس الذي عرفت به منذ حكم السيد الرئيس ، عندما اعتبرت في بدء الحراك أن وراءه شباب مغرر بهم، إلى اعتبار أن ما يجري في الميادين و الساحات العامة ثورة سلمية تنم عن رفعة الشعب و حرصه على أمن و سلامة البلد. فالتعامل مع الحراك بما يستلزمه من خطاب صريح و واضح ويُقدِّر الجهة المخاطبة، يساهم في اختزال الطريق و الوصول الآمن إلى ما يصبو إليه الجميع و خاصة مؤسسات الدولة الجزائرية في عهد الديمقراطية و الشخصية الاعتبارية المنزهة عن الأغراض و الأهواء. فلحظة التَّحلل من الغطرسة و العنجهية و الكف عن الإثم و طلب الصفح و الغفران عمّا فات يختصر الطريق عن العدالة الانتقالية ، الشرط اللازب لأي محاولة انفراج أو سعي إلى تخطي المأزق .
في مثل هذا الوضع الذي أفرزه الحراك : الجيش أمام الشعب أو الشعب مع الجيش، يكون الفاعلان الأساسيان قد اجترحا معاً الحل السياسي و التدبير العقلاني حتى بتخطي و تجاوز الدستور، لأن السيد الرئيس لم يحفل كثيرا بالقانون الأساسي للدولة عندما تنكر له عام 2016، و أعفى الشعب من الاستفتاء عليه، و حَصَره فقط في الهيئات المدجَّنة مثل البرلمان و المجلس الدستوري، مما جَعَل الدستور مجرد ترتيب مؤقت يوفر إمكانية لرجل/ شبح يحكم البلد. و اليوم بعد ” استقالته” و اعترافه بخطيئته الكبرى حيال الشعب ، فإن مسألة المخرج و الإنفراج تؤول أساس إلى الاعتبار السياسي، بينما يبقى الاعتبار الدستوري مجرد خطوات إجرائية تساعد و تدل على الجوانب العملية و التنظيمية التي تؤمن عدم الارتجال و تؤكد على وجود بقايا النظام و السلطة و الأعراف .
أخيرا، و هنا بيت القصيد، أن استعداد الجيش إلى تقديم نفسه على أن الطرف القادر على تأمين الإنتقال إلى بناء دولة المؤسسات على خلفية أن السلطة للشعب و يمارس بها سيادته، سوف تسفر المواجهة على انتصار عظيم للشعب دونما هزيمة للجيش، لأن مقاييس التاريخ تختلف عن أحكام السياسة الآنية . فقوة الحراك السلمي في ماهيته، من البداية و السياق إلى النهاية هي التي تنزل الفاعلين التاريخيين منازلهم الحقيقية.
رأي اليوم











