بحسرة تتقاذفها الأمواج على بساط الآمال، أتأمل ما يلفظه البحر من أشلاء وأحياء على شواطئ أوربا العابسة.. عدد غير مسبوق من المهاجرين يقف الإتحاد الأوربي اليوم عاجزا حائرا أمام غزوه الكاسح، لا يحمل أفراده معهم سوى أسلحة إنسانية بسيطة يزعم الإتحاد أنه لا يحارب أصحابها !
قرر الإتحاد تقاسم الكم الهائل من المهاجرين بين دوله فكان لألمانيا نصيب الأسد (أكثر من 40 ألف مهاجر) ودخلها حتى الأسبوع الأول من سبتمبر 450 ألفا، تلتها فرنسا التي يقال إنها البلد الأول في مجال حقوق الإنسان، باستقبال أكثر من 30 ألف، ثم إسبانيا بأكثر من 7 آلاف، وهكذا.. في حين عارضت دول كالمجر وجمهورية التشيك وسلوفاكيا ورومانيا وبولونيا، هذه الهجرة، وهؤلاء الغير مرغوب فيهم الذين استغرب وجود بعض الشيعة فيهم ! كما لاحظت في أحد القوارب الناقلة للمهاجرين إلى اليونان.. مهاجرون، وهذه المرة ليسوا كالمهاجرين، فهم الشعب كله، يمثلون جميع الأطياف من الجراح وحتى المستقيم المصلي في المسجد، وليس فقط المراهق أو العاطل الباحث عن الرزق.. حتى الأطفال الرضع ركبوا الأمواج من أجل النجاة من جحيم الحرب وانعدام الأمن الذي هو سبب دعم العقلاء للحاكم، وتلك أوامر الشريعة لحكمة نرى آثار مخالفتها متجلية اليوم.. فتعسا لكل من يثور على الحاكم، وأولهم الإخوان الذين يفعلون ذلك باسم الإسلام !..
وعلى إحدى الجزر اليونانية لم يعد السكان يحتملون الكم المتدفق على جزيرتهم من البشر ومخلفاتهم، آلاف المهاجرين ينتظرون على الأرصفة لحظة شحنهم في الميناء، ولتفريقهم تستخدم الشرطة العصي والكدمات ! مما ذكرني بكلمات داعية معارض لهذه الهجرة، قال: " ما أدرى المهاجرين أنهم سيجدون الخير في بلاد الكفار ؟ ".. نعم، إن الخير كل الخير في التمسك بملة وأخلاق الإسلام، وذلك أمر ليس بالسهل في تلك الدول الملحدة الماجنة، واسأل أبناء المهاجرين، وأبناء أبنائهم المتطورين.. لقد تسبب مراهق في بلد غربي متحرر في سجن والده الذي ضربه بسب خلوته مع إحدى الغربيات الهائمات، وانتهى بالوالد المآل إلى أن فقد أثر أسرته التي اختارت السكن في مدينة أخرى هربا من تطرفه !، لم يعرف مكانها بعد خروجه من سجنه الذي كان سببه ذلك التأديب !، ولم تساعده السلطات في العثور عليها حفاظا على التفسخ والإنحلال !
هل سينجح هؤلاء المهاجرون في التأثير على أوربا، الأمر الذي ترتعب منه القارة العجوز، أم أن التجارب والدراسات السابقة أثبتت - وهذا صحيح إلى حد بعيد - أن المسلمين ضِعاف أمام الإغراءات، بسبب بدعهم وتحررهم، سيذوبون مع قطع ثلج الكؤوس الخمرية الحمراء التي تقذف بأصحابها في النار، والعياذ بالله ؟
وفي سلوفاكيا الرافضة للحصة المخصصة لها من طرف الإتحاد الأوربي (1500 رأس)، عرضت حكومتها قبول 200 سوري فقط، بشرط أن يكونوا من المسيحيين.. بخيلة وتشترط !
وذكر أحد المواطنين السلوفاكيين للإعلام أن قبول هؤلاء اللاجئين غير ممكن، فلا يوجد مسجد واحد في سلوفاكيا ، والثقافة الإسلامية متناقضة مع الثقافة الشيطانية ، مذكرا بأن الخوف من الإسلام سيظل في الأذهان رغم كل السياسات والإتفاقيات والتقسيمات..
أما في المجر، أسوأ بلد أوربي في معارضة الهجرة، وصف البعض المهاجرين بأنهم صراصير ستقضي الحكومة عليهم ! وأغلب الناس هنالك يرفضون الهجرة تماما ، وأكثرهم يسندون رفضهم إلى الدعاية الكاذبة على الإسلام ! ذلك الإسلام الذي يحيي بدل أن يميت، لولا البدع والضلالات، وسوء فهم الجهلة المجاهدين في سبيل الشيطان..
أما المجر فأغلقت حدودها مع النمسا بالأسلاك الشائكة مع استعراض عسكري مخيف، ولك أن تتصور اللهفة التي تدفع أم مسكينة مرهقة إلى بذل آخر مجهود وحمل أصغر أطفالها والهرولة به يتبعها الأب الذي يحمل الباقين ! كل ذلك من أجل إدراك فجوة في السور قبل إغلاقها.. أسر محترمة تنفق مدخراتها (أكثر من 2000 أورو للفرد من أجل ركوب القارب فقط، كما سيأتي) في رحلة مخاطر قد يكون الموت قبطانها !
تخيل تلك المصورة العنصرية التي عرقلت كهلا سوريا أشيبا يحمل ابنته، كان يفر من الجنود المطاردين له، تصور مدى قوة ساقها التي تثبت فعلا أن المرأة والرجل سواء كما تروج له الديمقراطية.. وإذا نظرنا إلى الأمر من منظورها فإن بلدها يتعرض للغزو.. حقيقة لا يمكن إنكارها..
أما الرأي الآخر، رأي المتحلين بزي الإنسانية، والله أعلم بنواياهم، فينبني على أن المساعدة الإنسانية فوق جميع الإعتبارات حتى الأديان، وأصحابه كثر في أوربا، يستقبلون المهاجرين بالورود والطعام وألعاب الأطفال، كأنهم يوجهون رسالة إلى من لا يتقي الله فيهم كداعش والقاعدة بأنه " كان عليكم أن تحيونا بالإسلام بدل أن تقتلونا "..
إن ما يحدث اليوم في أوربا عجيب، يدل على قدرة رب العالمين، ورحمته إذا أراد بعباده امتحانا، ولو شاء لجمع الناس على الهدى.. البعض يرى أن الأوربيين لا يقومون بشيء إلا وفق المصالح والدراسات المعمقة، وهذا صحيح، فهم قطعا لهم مصالح كبيرة في استقبال هذا العدد من المسلمين رغم تناقص فرص العمل كما عبر ذلك الشيخ الفرنسي للإعلام، قائلا إنه في السبعينات كانت هنالك هجرة وهنالك عمل، أما اليوم فهنالك هجرة، ولا يوجد عمل !
فما هي مصلحة أوربا في قبول هؤلاء المسلمين الذين تحاربهم جهارا نهارا في كل مكان ؟ هل أصابتها الشيخوخة بالزهايمر كما يرى البعض، فألمانيا مثلا بلد يحتضر، أم أنها ترغب في الحصول على يد عاملة أخرى تضاف إلى ما تغض الطرف عن تسلله من إفريقيا وغيرها بين الفينة والأخرى من المراهقين الجهلة من أجل تخفيض عمولته عن طريق ابتزازه بوضعيته الغير قانونية التي تغض عنها البصر عمدا ؟
أم أن شعارات الحقوق والإنسانية تذكرهم بأنهم السبب في دمار بلدان الذين قذف بهم البحر على شواطئهم ؟ أم انه الغباء الديمقراطي المعهود الذي نراه في ديمقراطيتنا العرجاء، وفي كل من يعبدها، ويسبح بحمدها من الراقصين ..
أعتقد أن أوربا تعيش أحلك لحظات نفاقها السياسي، فهل ستثبت لنا ديمقراطيتها أن قبول المسلمين بهذا الكم ممكن ؟ على كل حال لقد أثبتت لنا الديمقراطية مرارا وتكرارا أنها تُصاب بالعمى كلما تعلق الأمر بالإعتداء على المسلمين، وهي اليوم تحت الإختبار، وستكشف لنا الأيام القادمة حقيقة إنسانية هذه العجوز الماكرة الباردة ..
شخصيا أعتقد أن هذا التدفق فاجئها، ونظرا لأن السياسة لعالمية قائمة على النفاق، أقدمت على هذه الإنسانية المتوقعة منها في مرحلة أولى، وستثبت الأيام صدقها لأن كم المهاجرين في تزايد ما لم يتركوا هم بلاد المسلمين في حالها، ويرفعون أنوفهم عنها.. وها هي الأنباء تتحدث عن دور قادم للحلف العسكري الأوربي في هذه المأساة.. بل اعترض الساسة في فرنسا على تفاؤل المستشارة الألمانية وكرمها المشبوه، وبدأ اليمين العنصري في لفظ سمومه كعادته، فجاء على لسان الحاقدة لوبين أن هؤلاء المهاجرين لا فرق بينهم وبين المجرمين ..
ألن تكون أوربا مستقبلا عرضة لهجرة كل شعوب المنطقة المظلومة، بدلا من تسلل المهاجرين فردا فردا في الخفاء؟ هل ستسكت إفريقيا الجائعة وهي تتفرج على هذا الكرم الأوربي المغري ؟ أم أن الردع قادم، وللمهاجرين، والسؤال المطروح هو فقط: كيف ومتى ؟ كل شيء متوقع حتى إطلاق كلابهم المتطرفين على المهاجرين وقطع الطريق عليهم بحجة الجهاد، ليضعوا كل رذائلهم على كاهل الإسلام والمسلمين مجددا..
إن مما يحز في القلب هو رؤية جماعة من المهاجرين من كل الأعمار والمستويات، فيهم أطفال رضع، يختبؤون في غابة تركية مشرفة على الجزر اليونانية، ينتظرون قاربا سيقلهم إلى الشاطئ الآخر مقابل 1000 أورو للطفل، و2000 للبالغ ! ويمتلئ القارب بالناس، ويطلب القائمون عليه من الباقين الإنتظار مهددين لهم بالسلاح إن لم يتراجعوا، ويعتلي البؤساء القارب، وأغلبهم لا يحسنون السباحة، يكللون أعناقهم بالإطارات الحامية من الغرق، وعلى متن القارب طفل رضيع لا يميز بين حرب وسلام.. ينطلق القارب ليقطع ما يقارب الألفي كيلومتر أو أكثر، لا أذكر، ويتعطل الموتور بين تلك الأمواج العاتية التي تتقاذفه، ويحل الظلام الدامس، ويزداد الخوف، وترتفع الإبتهالات، ولا ينفع المهاجرين إلا صياد يوناني مار، يلقي إليهم بحبل، ويجرهم بقاربه نحو الشواطئ اليونانية، وفي كل يوم ينقذ من قدر له أن ينقذهم من المشرفين على الموت .. مخاطرة، ومعاناة، ودُوار بحر يدفع معظم الراكبين إلى لفظ ما في بطونهم من زاد، ويفرح الجميع عند الوصول، يقول أحدهم بأن الرحلة لم تنته بعد، لكنهم تجاوزا أسوأ ما فيها، وأعتقد شخصيا أن أسوأ ما فيها قادم، فأوربا قليلة الصبر على وشك الإختناق، وسواء تم التخلص المباشر من المهاجرين عن طريق قصفهم أو عن طريق الوسائل الماكرة المعهودة، يُعرض أكثر المهاجرين أنفسهم اليوم للذل والمهانة والخطر، فالمجر أغلقت الحدود، والحلف الأطلسي على وشك التعامل بصرامة مع الشبكات المهربة للمهاجرين، وهذا يعني في رأيي التعامل بصرامة مع المهاجرين لأننا إذا سمعنا بقصف قوارب مستقبلا، ستقول الجزيرة الكذابة إن الحلف كان يستهدف المهربين..
أعتقد أن ما يجري في هذه الأيام أمر ستتغير بسببه معالم كثيرة، فلننتظر، ولنتدبر.. حفظ الله المضطهدين المسلمين، وأعاد الضالين إلى الصراط المستقيم الذي لا نجاة إلا بسلوكه، وأعزهم عزا لا يحتاجون معه إلى معونة عدو.. وأستغرب من زمن أصبح الحمل يعتقد فيه أن الذئب قد يعينه !..