الخريف الصامت!

خالد الفاضل

لقد زحفت العولمة على البادية وضايقتها. سقطت الخيم البيضاء وتحطمت الأقواس(أنايلن) التي كانت تحملها مع كل هبوب قوي للعواصف، انتصبت مكانها قضبان الحديد المحشوة بالاسمنت المسلح. اختفت ظاهرة ضرب الطبل فوق الكثبان وتحت أنوار القمر. كما اختفت أيضا ظاهرة الضيوف(الخطار)، وصار من النادر قدومهم على ظهور الجمال على حين غرة في هزيع من الليل أو في هجير من القيلولة. لم تعد أسماء الأعشاب معروفة عند أجيال (الأندرويد). اختفت قصص (الغول والسلطان) المشوقة وحلت محلها مقاطع الفيديو، لم تعد ظاهرة(تحاجي) من الألغاز التي يتحمس الأطفال لفك طلاسمها، استبدلوها بالألعاب الرقمية. حتى أن نبتة الحسكنيت(أنيتي) لم تعد تلتصق بثياب العابرين. لم تعد الأشواك تتوغل في أقدام الناس بسبب كثرة الأحذية البلاستيكية. توقفت الضفادع عن النقيق؛ ولاذت حشرة(بوزيزوان) بالصمت ليلا؛ كأنها توقفت عن القلق على مستقبل موريتانيا المحاط بالكثير من الألغام السياسية. اختفت أيضا ظاهرة تسمين النساء (لبلوح) عن طريق الحليب واللبن الرائب(المفرفر). فلم يعد صمت الخلاخل دليلا على الجمال، بل إن رنينها حول السيقان النحيلة في (سنابشات) صار هو الجمال بعينه!
دهن الحيوان اللذيذ أصبح سما قاتلا، أصيب معظم سكان البادية بفوبيا (الكوليسترول)، أصبحوا يخافون من ضغط الشرايين أكثر من خوفهم من هزيم الرعد؛ مع أن جلهم أصيب بالسكري والروماتبزم. استبدلوا القربة بالبراميل البلاستيكية وصار الماء لا يروي الظمأ، تركوا عنهم لعب ( كرور وظامت ومانكيب) تحت ظلال المساء. وبدل أن يذهبوا ناحية البئر صباحا لجلب الماء على ظهور الحمير الصبورة، أصبحوا يحملون هواتفهم بغية شحنها بالطاقة في المدن. وبدل تأمل النجوم اللامعة وهي ترصع أديم السماء ليلا، صاروا يتطاولون في مد سواعدهم لالتقاط بث شبكة الأنترنت. صار تفاعلهم بقدوم رسالة في بريد واتساب أكثر زخما من تفاعلهم مع هديل الحمام..
حتى أن حفلات الزفاف في البادية والمليئة عادة بألوان الفلكلور الشعبي تم ضغطها مثل العملة الوطنية، قديما كانت تمدد لأسبوع كامل، اليوم صارت تسعها ليلة يتيمة وكئيبة وخالية من أهازيج التراث وجاذبية الكسكس. منذ وصولي للبادية، لم أر حشرة (بوزنانة) التي كنا نتعامل معها بقسوة؛ حينما نقطع رجلها ونحل محلها شعرة من ذيل الحصان لنجعلها مروحة بدورانها الدائم، كان السيد (بوزنانة) يظن نفسه يطير وهو لا يتحرك، أنه يشبه جدا أحلامنا القديمة؛ ظنناها تتحرك وهي ثابتة. كما أنني لم أر السيد (بوجعران) وهو يتجول بين فضلات البقر. كما أن السيدة (خبخابة) لم تعد بدينة وسريعة. الخفافيش لم تعد تخرج من الجبال قبيل الغروب، الذئاب لم تعد تعوي ولبن الماعز لم يعد لذيذا كما كان. أصبح اللبن يقدم في أواني معدنية من دون رغوة ناعمة. أشياء كثيرة بدأت تختفي من البادية، حتى منظر الأفق بعد احتراقه بألوان الغروب الدموية لم يعد بذلك السحر والغموض!
هناك تراث ثقافي عظيم يذوب بسرعة رهيبة في ذاكرة الأجيال الصاعدة. لقد سقط المجتمع في أضواء العولمة اللامعة تاركا تراثا ضخما وراءه في العراء. اليوم؛ وأنا قادم من جولة تفقدية لأحد الكهوف وجدت بعض الصبية بين الصخور يلعبون، كانوا يستفسرون عن أسماء بعض الحيونات الجبلية المألوفة. هؤلاء الصبية فقدوا مسميات تراثهم ولا أحد سيذكرهم بها غدا. لا المناهج الدراسية الجامدة ولا حتى قصص الأطفال المستوردة.
هنا الضاحية الجنوبية لمدينة لعيون. وموسم الخريف يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة، بينما الموسم السياسي تمدد كما يبدو من تداعيات الأحداث الأخيرة. كما أن الموسم الدراسي بدأ هو الآخر يزحف نحونا. لقد أصبحت رائحة السياسة مثل رائحة الدفاتر تصيبني بالزكام.

...............................

نقلا عن صفحة الكاتب

أحد, 30/09/2018 - 12:34