آخر الديكتاتوريين...

البشير ولد عبد الرزاق

كان مطلع تلك الأغنية البائسة، التي كان على الشعب أن يحفظها عن ظهر قلب، ويرددها من الصباح إلى المساء، يقول: "أنت حين تتكلم تتحول كل الصخور إلى جبال، أنت حين تبتسم تتحول كل البذور إلى غلال، أنت، أنت، البطل الذي لا يقهر"،
حول البلاد إلى أكبر مسرح مفتوح في العالم، ضج بملايين المصفقين، كان وحده "النجم" الذي يحق له الوقوف وسط خشبة ذلك المسرح، والظهور على كل البطاقات البريدية للوطن، وفي كل الأماكن، حتى داخل دورات المياه، كان الزعيم هناك، يبتسم بخبث ويراقب شعبه وهو يقضي حاجاته الخاصة،
كل صغيرة وكبيرة كانت تدخل ضمن إنجازاته وتحصل طبقا لتوجيهاته، حتى النساء حين يضعن حملهن، كان عليهن أن يقلن بفخر، إنهن فعلن ذلك بفضل إنجازاته وطبقا لتوجيهاته، 
زوجته التي طلبت قضاء حاجتها وهي في الصف الرابع الابتدائي، ولم تعد أبدا بعد ذلك اليوم إلى مقاعد الدرس، أصبحت تحمل لقب العالمة الجليلة والمرأة التي لا مثيل لها، كان على الناس أن يتظاهروا بفرح هستيري، حين تطل من إحدى شرفات القصر الكبير لتحية الجماهير،
قيل لكل المصورين، إن التقاط صوره يعتبر واجبا وطنيا، ويدخل في صميم الأمن القومي للبلاد، فكانوا لا يلتقطون له صورة إلا وهو يبتسم أو هو يتلقى باقة ورود من أحد البراعم أو إحدى اليافعات،
مع مرور الوقت، ذابت كل الأكاذيب كقطع سكر داخل إبريق شاي، لم يعد هناك ماء ولا كهرباء ولا حليب للأطفال ولا رغيف خبز واحد يسد رمق الجائعين، وحدها الاستعراضات كانت تزدادا وتتضخم يوما بعد، لكن الشعب المنهك، سئم من قضاء صباحاته في طوابير طويلة للحصول على قوته، وتمضية بقية يومه في تمجيد الزعيم،
في يوم الاستعراض الأخير، وفي ذات المكان الذي حصل فيه الاستعراض الأول، قرر المصفقون الخروج على النص، داسوا على الصور والشعارات، وأطلقوا العنان لعبارات الاستهجان والازدراء، التي كتموها لسنين، فبهت الزعيم وشاخ في دقيقتين،
في نهاية ديسمبر 1989، وفي أمسية باردة، أعدم نيكولاي تشاوشيسكو وزوجته ألينا، في الفناء الخلفي لمبنى المخابرات الرومانية، حيث كان الرجل يسجن ويعذب ويفتك بمعارضيه، وطوت أوربا الشرقية آخر صفحات ديكتاتورياتها الثقيلة، التي أتت على الأخضر واليابس...

.....................................

نقلا عن صفحة الكاتب 

اثنين, 27/08/2018 - 14:04