قبل أيام قليلة كان لسان حالنا جميعا يردد: اللهم بلغنا رمضان.. كان الجميع يشتاق إلى وصوله لهذه اللحظة الزمانية؛ لقيمتها و لميزتها الخاصة في العبادة و في الحياة العامة، مرت الأيام مسرعة و ها نحن نستعد لتوديع رمضان.. كلنا يعلم أن رمضان أيام معدودة تمر و تأتي من بعدها أيام أخرى، و كلنا ينبغي أن يعي و يفهم أننا لا نعبد رمضان وليس هو المقصود عندنا بالطاعة لذاته؛ فغرض العبادة يجب أن يكون إلى الرحمن، ربنا ورب رمضان، وهو الذي يعظم الزمان و المكان لاختبار عباده؛ فيكرم الطائع بكرمه و يحاسب غيره بعدله..
إن أي عبادة لا يقصد بها وجه الله تبارك و تعالى؛ صفاء، نقاء؛ هي خواء في خواء وانتفاء ومولد جفاء.
كثير من الناس كان موفقا في صيامه بتحقيقه المقصود من ذلك، فصاما صوما أقرب إلى الكمال؛ ارتقى في ذلك إلى منازل الخواص و خواص الخواص؛ فأمسك عن الشهوات و المفطرات و تزود من الذكر و حسن الكلام ومنهم من زاد بالإبلاغ عن خير الأنام و أنفق و ترفق، وكان سعيه في التقرب من الله تعالى واضح جلي، ومن تقرب من ربه ذراعا تقرب إليه باعا.. والبعض الآخر نزل دون ذلك فاستمرأ منازل العوام ومنهم من نزل إلى منازل عوام العوام و المؤسف في هذا النوع؛ هو تركه لطعامه و شرابه و شهوته و انتهاكه لمنهيات أخرى لا يسمى الصيام صياما إذا كان خلوا من الابتعاد عنها.
إن من أكبر الأخطاء أن نحسب صيامنا تكرما منا لا تقربا إلى ربنا، الله غني عنا، غني عن تركنا لطعامنا و شرابنا.. ما قيمة ترك الأكل و الشرب و الجماع نهار رمضان و استهلاك أوقات النهار بالأحاديث الفضولية أو بالأحرى المشبعة بالغيبة و الكذب و اللغو و الرفث..؟!
لقد ثبت عن رسولنا- صلى الله عليه و سلم من حديث أبي هريرة قوله: "من لم يدع قول الزور و العمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه"
وثبت من كلام صاحبه عمر - رضي الله عنه قوله: " ليس الصيام من الأكل و الشرب و الجماع فقط ولكنه من الكذب والغيبة و اللغو و الرفث"
من المؤسف جدا أن يلاحظ على بعض الصائمين التثاقل بأيام رمضان؛ فتراهم منشغلين بالتعليق طوال الوقت على حر اليوم وإن لم يكن كذلك، يستحضر التعب و إن لم يزاول أي نشاط، يتمنى خلاص العبادة وانقضاء الأيام للتخلص منها ويشغله ذلك عن الإخلاص فيها، وطبعا أخطأ وخسر، و الأشد خسارة من هذا أولئك الذين أخذوا المبادرة في رمضان، شهر العبادة و الإخلاص للوقوع في أعراض الناس، و التقليل من شأنهم وزرع الخلاف و الشحناء بينهم؛ مهما كانت الدعاوى و السبل..! ومما ظهر من ذلك في رمضان الحالي تحديدا و تداولته وسائط التواصل الاجتماعي، و اجتهد كثيرون في تداوله -مع الأسف- طعن البعض في أنساب آخرين و شغل الوقت بذلك واستعاضة الذكر به!! وغاب عن جمعهم هذا قول الحق سبحانه: *إن أكرمكم عند الله أتقاكم* ، وغاب عنهم أن "من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه" كما غاب عنهم من بين أمور أخرى أن رمضان شهر الرحمة و الغفران و التآخي تحت كلمة التوحيد و توحيد الكلمة!
لا شك أن الناجح في امتحان رمضان هو الذي شغل وقته فيه بالاحسان، يخلص في الطاعات تقربا بها و لا يتخلص منها تكرما!، يتعامل مع ربه الذي لا يغفل و لاينام و لا يهتم بالمظاهر الجوفاء و التصنع محاباة لبني الإنسان، ويزداد هذا النجاح إذا استمر نداه بعد رمضان، بل قد يصل إلى غيره عن طريق نشر الخير و الإحسان، فيصبح مصباحا مضيئا في مجتمعه، ومفتاحا من مفاتيح الخير يتعدى نفعه إلى غيره.
إن الخطأ الذي يقع فيه كثيرون هو تعاملهم مع العبادة في رمضان الذي يختلف بزواية منفرجة عن تعاملهم مع العبادة في غير رمضان!؟ فترى هذا النوع -وهو كثير- مطيعا لربه في رمضان عاصيا له خارج رمضان.. ربما يكون رمضان قد أفل؛ لكن قيوم السماوات و الارض باق..صحيح أن رمضان شحنة إيجابية و الموفق من تزود منها بالقدر الذي يجاوزه أو يوصله رمضان القادم-إذا كتب له ذلك- وإن غادر قبل الوصول كان آمنا وفائزا ومستقرا بإذن ربه في الجنان، لكن الحرمان عين الحرمان أن لا تستفيد من زيادة رصيد الإحسان عندك في رمضان، و تعود بعده إلى سابق عهدك بالنزوات و العصيان، قد تموت على ذلك- نسأل الله السلامة- وهنا تحل دائرة الخسران و يتبوأ المرأ مقعده من النيران وهذا لعمري هو الشقاء و الخسران.
علينا ونحن نودع رمضان أن نغتنم الشحنة الإيجابية المتولدة عندنا من الطاعات ونسهر على زيادتها بتنمية الإحسان و الحرص على وجود خبيئة مع الرحمن؛ فماضاع من كان له مع الرحمن اسرار من الطاعة، وقد يكون منها الصيام بعد رمضان و الصلاة في جوف الليل و الذكر خاليا و تعهد الصلاة على رسول الله -صلى الله عليه و سلم- في كل لحظة وحين؛ فهي سر من أسرار الفلاح و ثبات التوفيق و مفتاح لكل صعب.. أعاننا الله وإياكم و ثبتنا على الخير ورزقنا الإخلاص له إنه سميع مجيب.