السعودية والعراق الجديد

عبد الرحمن الطريري

شهدت الأعوام الماضية محاولات تقارب بين العراق ومحيطه العربي، خاصة بين العراق والمملكة العربية السعودية، كتقارب طبيعي يمثل العمق الطبيعي للعراق، حيث شهد عراق ما بعد العام 2003 تقاربا بينه وبين إيران بالدرجة الأولى، وتقاربا مع تركيا بدرجة أقل، وهذا ما تبيّنه أرقام التبادل التجاري.

وقد شهد العراق خاصة في المحافظات الجنوبية، مظاهرات عدة اتسمت بأنها واعية بالمشكلة الحقيقية، فلم تندد بالساسة الحاكمين، بل كانت توجه اتهاماتها مباشرة إلى إيران التي تجثو على صدر العراق وتستنزف خيراته، خاصة بعد أن ضيقت عليها كثيرا العقوبات الأميركية.

استمرت المظاهرات في البصرة والنجف وعدة مدن عراقية مرة تلو الأخرى، حتى كانت الأبرز في العام الماضي، وقد تبين على الأرض أن الخصم الحقيقي للمتظاهرين هي الميليشيات التابعة لإيران، والتي مارست جميع أنواع القمع بما فيها القتل بالرصاص الحي، لكن المتظاهرين استطاعوا، في نهاية الأمر، الإطاحة بحكومة عادل عبدالمهدي، الذي أتى بعد حيدر العبادي والذي حاول أن يخرج العراق من سياسة المحاور، ويستفيد سياسيا من زخم الانتصار على تنظيم داعش، لكنه كان مرفوضا إيرانيا خشية من تنامي هذا الرصيد فرحل.

اليوم نرى ملامح عراق جديد، حيث يرأس مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، والذي أصدر بقرارات لافتة على رأسها إعادة عبدالوهاب الساعدي على رأس جهاز مكافحة الإرهاب، والذي أقاله عبدالمهدي في سبتمبر الماضي تحت ضغوط إيرانية.

كما قام الكاظمي أيضا بالتعهد بمحاكمة قتلة المتظاهرين، وهو تحدّ صعب لكنه يمثل بادرة جيدة، ضمن خطوات تأتي استجابة للشارع المنتفض ضد حكومة عبدالمهدي، والذي حظي بتأييد من المرجعية في النجف أيضا.

الكاظمي اختار أن تكون الزيارة الأولى لنائبه علي علاوي إلى المملكة العربية السعودية، وهو وزير المالية والمكلف بوزارة النفط، وسط تقارير تشير إلى أن الكاظمي أتى على خزينة دولة فارغة، وأن ما جاء به هذا العام من أزمة كورونا وتراجع صادرات وأسعار النفط، أثر كثيرا على الوضع الاقتصادي، وقد تضطر الحكومة للخصم من الرواتب.

المداخيل الكبيرة التي كان يحققها النفط في السنوات الماضية، كانت تغطي على كل معالم الفساد والهدر، وهو ما كانت تستفيد منه إيران عبر بيع غازها، ومنتجاتها بأغلى الأثمان للعراق، ولكن انخفاض أسعار النفط بينت حجم المشكلة.

السعودية قامت بخطوات للتقارب الاقتصادي والتجاري مع العراق خلال السنوات الماضية، حيث أعلنت فتح معبر عرعر الحدودي مع العراق، واستئناف الرحلات الجوية، وشكلت مجلسا تنسيقيا مع العراق، حيث شاركت ستون شركة سعودية في معرض بغداد الدولي الذي انتظم في أكتوبر 2017، وشاركت 22 شركة في معرض أربيل الدولي للبناء في أبريل 2019.

كما دعت السعودية إلى إقامة مباراة بالعراق في 2018 بين المنتخبين، في خطوة تهدف إلى دعم رفع الحظر عن الملاعب العراقية، كي تستضيف مباريات رسمية، وقد لاقت ردة فعل إيجابية من قبل الجماهير العراقية التي ملأت المدرجات، وأثارت تلك المباراة حفيظة النظام الإيراني.

واليوم يبدو من القرارات المباشرة التي جمعت الوزير علاوي بعدة وزراء سعوديين، أن السعودية تتجه لدعم العراق وإعادة السفير إلى بغداد، بالإضافة إلى فتح ملحقية تجارية في بغداد، ما يلمح لرغبة الطرفين في تطوير العلاقات التجارية بين البلدين، وفتح السوق العراقي للمنتجات السعودية.

هذا التقارب لا يخلو من تحديات، وهذا التقارب لا ترحب به إيران بطبيعة الحال ولا الأطراف السياسية القريبة منها، لكن ما يختلف هو نضوج ظروف التقارب ليس في العراق فقط، بل في إيران أيضا، وهذا ما يجعل التقارب فرصة عراقية وسعودية بل خليجية.

فإيران التي ترزح تحت عقوبات شديدة وإصرار أميركي على التصدي لمشاريعها التوسعية، بل وتغيير قواعد الاشتباك، عبر تصفية قاسم سليماني وأبومهدي المهندس في يناير الماضي، لا يبدو أنها نجحت في استعادة زمام الأمور، ولم يتمكن إسماعيل قآني أو غيره من ملء فراغ سليماني، وبالتالي فقد نضجت الظروف التي توفر للعراق مساحة من التحرك في محيطه العربي.العراق اليوم يملك ميزة أخرى هي في رئيسه برهم صالح، والذي استعاد جزءا من صلاحيات رئيس الجمهورية، حيث فعّل المادة 66 التي تنص على أن السلطة التنفيذية الاتحادية تتكون من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء، بعد أن أضاعت الكتل خمسة أشهر من المراوحة بين محمد توفيق علاوي وعدنان الزرفي، قبل أن تعود إلى مقترح الرئيس صالح بتكليف الكاظمي.

ما زال مبكرا الحكم على نتائج التقارب المرجو بين العراق والسعودية، وعلى مدى رغبة وقدرة الأطراف القريبة من إيران على عرقلة هذا التقارب، لكن كل التغيرات التي حدثت خلال الأشهر الماضية، خلقت فرصة للطرفين في بناء علاقات أمتن تمثل العلاقات التاريخية والطبيعية بين العراق والسعودية، بكل المشتركات الدينية والتاريخية والقبلية.

نقلاً عن "العرب"

جمعة, 29/05/2020 - 08:37