مدافع الصين الباردة

عبد الرحمن شلقم

وزير خارجية الصين حذَّر علناً من حرب باردة قادمة بين بلاده والولايات المتحدة. قبله أعلن الرئيس الأميركي أن بلاده قد تلجأ إلى قطع العلاقات مع الصين. ناقوس الصين أكثر إزعاجاً؛ بل وخطراً. الصينيون وخصوصاً الدبلوماسيين منهم لهم ميزان عالي الحساسية في قياس ثقل الكلمات وأثرها، عكس ما يصدر عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي يتعامل مع الناطق الإلكتروني باسمه (تويتر)، فهو يتعامل مع الكلام كضربات قيثار إعلامي.
ما يجمع الموقفين الأميركي والصيني، أنهما طبَّلا لحرب باردة قادمة؛ بل قائمة فعلاً بينهما. وباء «كورونا» يسميه ترمب الوباء الصيني؛ لكن هذا التعبير يحمل بعداً أوسع من الإشارة إلى فيروس طار من ووهان الصينية إلى أصقاع العالم، وفعل ما فعل في أميركا موتاً وبطالة وأزمة مالية. هناك صراع بين الدولتين يتسع ويرتفع دون توقف.
هناك قاعدة قديمة متجددة تحكم العلاقة بين القوة القائمة المهيمنة والقوة الصاعدة المنافسة لها. الصعود السريع وغير المسبوق للقوة الصينية، جعلها الغريم المرعب للولايات المتحدة في جميع المجالات. الصين التي كانت في عهد زعيمها الراحل ماو تسي تونغ، تعد من الدول النامية فعلاً، وبعد رحيله باشرت في تطوير سياساتها المالية وبمنهج رأسمالي، وانفتحت للاستثمار الخارجي، كانت ثروتها أقل من هولندا وإسبانيا. في عقود قليلة تجاوزت الجميع، وصارت تسابق وتنافس القدرات الأميركية. القوة لها أدرع تنتج ذاتها وتوسعها، وعليها تتخلَّق مجالات الصراع مع القوة القائمة.
الصراع الصيني الأميركي اليوم له عناوين عاملة، وهي:
أولاً: الاقتصاد؛ حيث صارت الصين مصنع العالم ومتجره، قلَّما يوجد بيت في كل العالم ليس به منتج صيني، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها، والسندات الصينية في أميركا التي تعد بالتريليونات وتتحكم اليوم في 28 في المائة من التجارة العالمية، كل ذلك جعل من الصين قوة صاعدة بسرعة هائلة، وقد حاول الرئيس ترمب أن يخوض حرباً اقتصادية على الصين، لوقف غزوها للأسواق الأميركية، برفع نسبة الجمارك على الواردات من الصين، ولكن رد فعل الداخل الأميركي كان معاكساً، مثلما حدث مع المزارعين بالنسبة لفول الصويا. الواردات الصينية من أميركا ضخمة جداً، مثل الطائرات وغيرها، ويصل التبادل التجاري بين البلدين إلى 700 مليار سنوياً.
ثانياً: القوة الصينية الناعمة التي تزحف بصور شتى في كل أنحاء العالم؛ خصوصاً مشروع طريق الحرير الذي يعبر قرابة الستين دولة، وسيكون ضفافاً للاقتصاد والسياسة والثقافة الصينية. هذا الطريق بشقيه البري والبحري هو من أضخم المشروعات في العالم، وسيغير التكوين الاقتصادي، ويؤسس لعولمة جديدة بأبعادها السياسية والأمنية والاقتصادية؛ خصوصاً أن الصين نجحت في وضعت عملتها في سلة العملات الدولية. الصين تتوسع في أفريقيا صناعياً وزراعياً، وتحقق وجوداً مالياً وبشرياً متزايداً، ولا تثير قضايا حساسة للأنظمة، مثل الديمقراطية وحرية الرأي وحقوق الإنسان، وغيرها. طريق الحرير سيكون الحزام القوي الذي يربط عشرات الدول ببكين لزمن غير محدد.
واليوم يطرح الخبراء سؤالاً مهماً، وهو: هل تستطيع الصين أن تفكك ترتيبات «بريتون وودز» التي فُرضت على العالم بعد الحرب العالمية الثانية؟
رافق مشروعَ طريق الحرير، قروضٌ توسعت الصين في منحها لعديد من دول العالم الثالث، مما جعلها يداً مؤثرة في قرارات تلك الدول؛ سواء كانت اقتصادية أو سياسة، بحيث تجعلها متماهية مع استراتيجيات الصين في الترتيبات السياسية والاقتصادية العالمية، ولم يُخفِ السياسيون والباحثون الأميركيون والأوروبيون تخوفهم من ذلك الطريق الذي يرونه ليس للحرير، وإنما للحديد الذي يكبل إرادة تلك الدول، ويشدها بقوة إلى الصين.
ثالثاً: خلافات ساخنة سياسية وعسكرية وجغرافية. بحر الصين الجنوبي الذي يعني بالنسبة للصين مصدراً للثروة؛ حيث الغاز والنفط والثروة السمكية، وكذلك تراه الصين ماءها الأمني على المحيط الهادي. وقد شهدت المنطقة مناوشات عسكرية بين الولايات المتحدة والصين.
الحرب بين دولة الصين الشعبية والولايات المتحدة قائمة وليست قادمة؛ لكنها بمدافع باردة في ميادين شتى، أوسعها وأقواها الميدان الاقتصادي. المواجهة العسكرية لا أقول مستبعدة؛ بل مستحيلة. البلدان يمتلكان السلاح، بما فيه النووي وحاملات الطائرات؛ لكن لا مجال للمقارنة بين القوتين، الولايات المتحدة تمتلك تفوقاً كبيراً. قوة الصين في عقلها السياسي وصبرها ودقة حساباتها، فهي لا تغامر، ترى أن الزمن هو قوتها الأساسية، في عقود قليلة قادمة ستفرض قوتها بمعايير وأساليب وأدوات جديدة، أولها الاقتصاد والذكاء الصناعي، وليس بالسلاح. لقد صنعت وجودها المحلي والإقليمي من دون خوض حرب مع القوى العظمى، وكان الاقتصاد هو الجيش، والجنرال الذي خاض معركة بناء القوة.
الولايات المتحدة اليوم هي القوة الأعظم في العالم، والصين لا تستطيع أن تقارعها بأسلحة تقليدية، وترى أن رحاب الزمن القادم في مصلحتها، وستتخلق توازنات جديدة تكرس تفوقها.
الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر عدَّد نقاطاً كثيرة في خطاب أرسله للرئيس ترمب؛ حيث تمتلك الصين محركات القوة التي ستجعلها قريباً تتجاوز أميركا في كل المجالات.
الأكاديميون الأميركيون لا يرفعون رؤوسهم في مختبرات البحث وغرف الدراسة عن موضوع العلاقات الصينية الأميركية، مثلما يسهر العلماء في المختبرات بحثاً عن لقاح لـ«كورونا».
البروفسور الأميركي غراهام أليسون، أصدر كتاباً بعنوان «بلدان قدرها الحرب» خلاصة ما فيه أن الحرب بين أميركا والصين قادمة حتماً ولا ريب فيها. بنى ما توصل إليه على مسارات التاريخ قديمه وحديثه، بين القوة القائمة والقوة الصاعدة من أسبرطة وأثينا إلى ألمانيا وبريطانيا، بمعنى أن الولايات المتحدة هي القوة القائمة، والصين هي القوة الصاعدة، ولا مناص من المواجهة بين الدولتين.
هذه فرضية لا نستطيع أن نقول إنها حتمية، لماذا؟ لأن الولايات المتحدة اليوم هي الأقوى اقتصادياً وعسكرياً وعلمياً، لها قواعد عسكرية في كل بقاع الأرض، وحاملات طائرات وقوة صاروخية ونووية ضاربة، وإذا كانت الصين تمتلك اليد العاملة المدربة والـknowhow والسوق الكبير الداخلي للاستهلاك، فهناك قوى -وبالذات آسيوية- تمتلك القدرات نفسها، مثل الهند وبنغلاديش وإندونيسيا وباكستان، ويمكن أن تكون المنافس؛ بل البديل للصين.
أوروبا قوة اقتصادية وعلمية وعسكرية أيضاً، وهي حليفة للولايات المتحدة، ولهما القدرة على إعادة التوازن للخلل الذي تريان فيه تهديداً لموازين القوى الدولية في كل ميادينها وأبعادها. الصين من طرفها ستعيد رسم خرائطها بما لا يجرها إلى احتكاك مباشر مع الولايات المتحدة، وخصوصاً عسكرياً برغم الاستفزازات الأميركية لها، وتدخلها العلني في هونغ كونغ وتايوان، وتحركها العسكري في بحر الصين الجنوبي. الصين لن تتردد في إطلاق صواريخها (الباردة) على الولايات المتحدة، أما تلك الساخنة فهي في الرؤوس وليست في الأيدي، على الأقل لعقود قادمة.

نقلاً عن "الشرق الأوسط"

أحد, 31/05/2020 - 15:16