عن البشرية ما بعد الكورونية

إميل أمين

ترى ما هي بعض من ملامح ومعالم البشرية ما بعد الكورونية إن قدر للإنسانية أن تعبر بسلام من هذه الجائحة غير المسبوقة؟

الشاهد أن العالم قد انشغل بحياة الرفاهية في العقود التي تلت سقوط حائط برلين، وربما تكون مسألة استبعاد المخاوف من قيام حروب جديدة والتأثير على مستوى الحياة، والوفرة الاقتصادية التي تحققت، هي السبب الرئيسي الذي جعل التكالب على الأنساق الاستهلاكية شعار العصر.

كان الهدف الأول للإنسانية المرفهة المزيد من المتع الحياتية متمثلة في السفر والإجازات ما وراء البحار والأطعمة الفاخرة والمشروبات الروحية، إنه مجتمع الاستهلاك الذي جعل كل الأشياء سلعاً قابلة للعرض والطلب، حتى الإنسان نفسه، ولم يكن من الغريب أو العجيب الاتجار في البشر في العقود القليلة الفائتة، فقد أصبحنا في زمن تسليع الإنسان، غير أنه وأمام فيروس غير مرئي يهاجم الإنسانية بضراوة، تكشفت اختلالات جوهرية في حياة البشر، لاسيما بعد أن ضربت العزلة على الجميع، وأصبح العزل الاختياري هو النموذج المثالي للفكاك من هجمات كورونا الضارية داخل المنازل التي تساوت إلى حد كبير مهما اختلف الشكل الظاهر.

سقطت منظومة الرفاهية وبدا وكأن الإنسانية في حاجة إلى قراءة سلم الأولويات البدائية الغذاء والدواء والكساء، الأول الذي يقي من الجوع ويقيم أود الإنسان ويحفظ حياته من الجوع، والثاني الذي يطرد عن المرء خطر الهلاك من جرء الوباء والأمراض، والثالث الذي يستر بدن البشرية.

هنا استفاقت الإنسانية على التقصير الذي جرى تجاه النشاط الإنساني الأول الزراعة التي توفر للعالم ما يحتاجه من غذاء وليس سرا أن دولا أوربية بأكملها قد تعرضت لنقص مفاجئ في الغذاء، الأمر الذي سيعيد حكما الانتباه إلى جدلية العلاقة بين الإنسان وبين أمنا الأرض التي تعول السكان عليها، شريطة أن يتنبهوا لما يواجهونه من تغيرات ايكولوجية جذرية.

الأمر الآخر هو صناعة الدواء، إذ تأكد للجميع أن مسألة صحة الإنسانية لا يجب بحال من الأحوال أن تكون رهنا لرغبات وتوجهات لوبي المصالح الدوائية، هذا الذي لا يفكر سوى في الربح السريع على حساب حياة الفقراء والضعفاء بنوع خاص.

سوف تنفتح العقول حكما بعد نهاية شر كورونا المستطير على ضرورة قيام تجمع دولي ذي مسحة إنسانية أول الأمر وآخره للعمل على مواجهة ومجابهة خشع تجار الموت الدوائي، إن جاز التعبير، وعوضا عن هؤلاء الآخرين ترتفع في الآفاق جماعات من العلماء الباحثين عن خير الإنسانية والمعرضة قطعا لهجمات ضارية في قابل الأيام غير معروفة المصدر.

من بين معالم الحياة ما بعد الكورونية الاهتمام بعلم المستقبليات، وهو يختلف عن مجال البحث العلمي الطبي والفيزيائي والبيولوجي، في أنه مرتبط بالبشر والقيادة والتحكم، بأكثر من ارتباطه بالاكتشافات الطبية أو الدوائية الحديثة.

في هذا السياق يحدثنا عالم المستقبليات البارز والمدير التنفيذي لمؤسسة "دافنشي توماس فريي"، أن ما جرى في وقت كورونا يظهر العالم وكأنه ضغط على زر ضخم لإعادة تشغيل الإنسانية كلها، لكن هذه الحالة مدفوعة بشكل كبير بحالة من الخوف والذعر، ومن غير المعقول أن نعتقد أن القادة الحاليين لن يتم انتقادهم بشدة بعد هدوء الأوضاع "الرئيس ترمب كمثال"، فقد انتقلنا من عصر "الجهل نعمة" إلى عصر نعرف فيه أننا نعاني من مشكلة لكن لا نعرف كيف نتصرف حيالها.

هنا تبقى الدراسات المستقبلية أداة تقدمية للحاكم العاقل في رسم صورة المستقبل المنشود، فمن خلالها يمكنه أن يرسم لمواطنيه وشعبه صورة المستقبل المتخيلة في ذهنه، وتاليا له أن يبلور الرؤى ويفصل الأهداف، ويرسم الطرق اللازمة للوصول، ومن ثم يشحن مريديه بالرغبة الخلاقة الإيجابية لإدراك تلك الغايات، مهما كانت صغيرة على مستوى الداخل الوطني أو كبيرة في اتصالها بالسياقات المعولمة.

عالم ما بعد كورونا في واقع الحال سيشهد تعزيز الاستعداد للمخاطر، بما في ذلك المخاطر الآتية من تهديدات غير مرئية وزيادة القدرات لمواجهة الحروب البيولوجية.

سوف تدرك البشرية أن زمن الجيوش الجرارة قد ولى، وأن عالما مخيفا من الحروب البيولوجية والعقول الإلكترونية قد انطلق، وعليه فإن معظم بلدان العالم ستغير من خططها المستقبلية، لتجعل من التهديدات غير المرئية تهديدات مرئية غير أن هذا سيختصم من الحريات الشخصية.

ولعله من ضمن إفرازات عالم ما بعد كورونا الاختصام من الحريات الشخصية بشكل كبير ورهيب الأمر الذي يعيدنا إلى رائعة "جورج أورويل 1984"، حيث الأخ الأكبر يتنصت ويراقب الجميع.

عما قريب سيكون كل تحرك على سطح الكرة الأرضية مرصودا، وكل عبور للحدود سواء عبر المطارات أو المواني سوف يشهد قادم الزمان زيادة في الرقابة ونظم الكشف عبر الصوت والصورة، إضافة إلى زيادة استخدام الطائرات المسيرة لزيادة التغطية، وسيكون الهدف ألا يعبر أي فيروس أو بكتيريا أو جرثومة أو فطر دون كشفه.

لكن السؤال: "ما هو المقابل وما الثمن الذي ستحمله الإنسانية؟ الشاهد أن المرحلة الخاصة بالأخ الأكبر قد تبدت ظاهرة بالفعل في الأشهر الأربعة الماضية لاسيما في الصين، حيث مصدر ومنشأ كورونا الأصلي والرئيسي، فقد عرف العالم كيف أن الصينيين يراقبون الجميع من المواطنين والقادمين على حد سواء، بذريعه تبدو مقبولة في الظاهر، وهي اكتشاف الفيروس وملاحقة حامليه والمصابين به، لكن على الجانب الأورويلي إن جاز التعبير، سوف تتمكن السلطات من اقتحام كل مساحات الحرية الخاصة بالفرد، ونعود مرة جديدة إلى دائرة الجدل التي لم تنته، وأيهما يتوجب أن يسبق الآخر: الحرية الشخصية أم الأمن الجماعي، والصحة ولاشك بند من بنود الأمن القومي لكل دول العالم.

حين تنقشع غمة كورونا سيكون على الحكماء والفهماء والفلاسفة، عطفا على القادة والمسؤولين وأصحاب القرار السياسي، بلورة رؤية واقعية تأخذ في اعتبارها خصوصية المرء وأمن المجتمع، من غير تضاد أو تضارب... والحديث ممتد إلى آفاق أخرى.

 

نقلا عن العربية نت

اثنين, 01/06/2020 - 15:05