بين "حياد" لبنان و"تحييده" المطلب واحد: النأي بالنفس!

بديع يونس

برز، في لبنان، طرح سياسي قديم - جديد يتعلق بـ"الحياد". ارتفع شعار حياد لبنان الإيجابي وشكل محور اهتمام الساسة والأحزاب والرأي العام ووسائل الإعلام لما له من وقع في الوجدان اللبناني والموروث الفكري الشعبي. فالحياد شغل اللبنانيين منذ الاستقلال عام 1943، يوم اعتبر لبنان بوابة الشرق والغرب معا، لا مقرا أو ممرا لهما. بعدها، تأكد مطلب الحياد إثر سقوط "حلف بغداد" ولقاء الرئيسين فؤاد شهاب وعبد الناصر في خيمة على الحدود اللبنانية - السورية التي كانت حدود الوحدة مع مصر وسوريا، حيث أكد الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر يومها على احترام سيادة لبنان واستقلاله وحياده.

في مؤتمر الطائف عام 1989، كرّس الدستور اللبناني في مقدمته حياد لبنان الإيجابي المتفق عليه بين أبناء الوطن، مؤكدا على أنّ لبنان عربي الهوية والانتماء، وهو عضو مؤسس وعامل في جامعة الدول العربية وملتزم مواثيقها.

إبان عهد الرئيس ميشال سليمان عام 2014، برز أيضا طرح الحياد أو الصيغة المشابهة له والمسماة "النأي بالنفس" غير أن حزب الله الذي شارك بإقراره على طاولة الحوار الوطني سارع إلى التنصل منه والتنكر له، مطالبا على لسان رئيس كتلته النيابية محمد رعد "بغليه وشرب زومه"، مغلّبا تدخله العسكري المباشر في الحرب السورية تلبية للأوامر الإيرانية على مصلحة لبنان العميقة بـ"الحياد".

مع انهيار لبنان ماليا واقتصاديا، استفاق الشعب اللبناني على مصائبه مدركاً جلياً لما أوصله إليه "محور الممانعة" من دمار وخراب وحروب فضلا عن عزلة عربية وعالمية خانقة سبّبها تصدير حزب الله لعملياته "الإجرامية" حول العالم والتي صنّفتها أكثر من 57 دولة بـ"الإرهابية" فضلاً عن انغماسه في عمليات التهريب وغسل الأموال وتنظيم شبكات أمنية استخباراتية لمصلحة النظام الإيراني، إضافة لانتزاع لبنان من حضنه العربي "قسراً" تنفيذا لأجندة طهران الإقليمية والدولية.

في الموازاة، برز موقف لمن "مجد لبنان أُعطي له" حيث أعلن البطريرك الماروني مار بشاره بطرس الراعي أن على لبنان استعادة الشرعية وتطبيق الحياد، حتى أطلق حزب الله "الذباب الإلكتروني" لتخوين كل من ينادي بالحياد وصولاً حتى اعتبار من ينادي به بـ"العميل". وللمفارقة فإنّ زيارة وزير الخارجية الفرنسي إلى بيروت حملت معها دعماً لـ"حياد" لبنان، وخلال لقائه بالبطريرك الماروني أكد لودريان على سيادة لبنان التي تتمسك بها فرنسا وتستلزم أن يكون لبنان بلدًا محايدًا بعيدًا عن الصراعات والمحاور، وأنّ لبنان يملك كل المقوّمات لـ"النهوض من جديد". يأتي موقف فرنسا ليدحض كل "التخوين" الذي يعتمده حزب الله حيث إن باريس تربطها مواقف تاريخية داعمة للموقف الفلسطيني وللحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني من وقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال وتجسيد القدس عاصمة للدولة الفلسطينية. ومن يحمل شعار "العداء" لإسرائيل لن يزايد على بكركي أو على فرنسا وموقفهما من القضية الفلسطينية.

على وقع كل هذه التطورات والمواقف، انبرى رئيس التيار العوني الوزير السابق جبران باسيل مندفعا بمهاجمة طرح الحياد، ومتنكرا للدور المسيحي التاريخي كصلة وصل بين الشرق والغرب وتمسك لبنان بوجهه العربي ليدخل البلاد في محور فئوي مبدّيا المصلحة الإيرانية بخلاف شبه الإجماع الوطني الملتف حول "الحياد"، غامزا من قناة من تبنى الهجوم وشاهرا موقفه المنحاز لحزب الله والمنغمس في تنفيذ أجندة طهران المعادية لمصالح اللبنانيين وأهمية عودة بلدهم للحضن العربي والاستفادة من تكامل لبنان مع محيطه العربي. أعلن جبران باسيل قبل أسبوع عدم اتفاقه مع طرح مسألة الحياد، بل سعى في تصاريحه الإعلامية لإضفاء التباس ظاهره لغوي إلا أن باطنه سياسي بامتياز، مفسرا مفهومه الشخصي اللغوي لتعبيري "الحياد" و"التحييد"، ليتبين بنتيجة تصريحه أنه مرتبط ارتباطا وثيقا بسياسة حزب الله و"لو خرب البلد". كما اعتبر باسيل أن "حياد لبنان" يتطلب رضى النظام السوري وإسرائيل معا، فيما يعلم القاصي والداني أن ما يشترطه باسيل بتلاعبه على الألفاظ من توافق سوريا وإسرائيل لتحقيق الحياد المنشود هو من المستحيلات (أقله من توافق مُعلن). وكأننا به بدلا من رفض الحياد صراحة، لجأ إلى اشتراط موافقة جيران لبنان مسبقا، الطامعين بدورهما لجعل لبنان منصة خاصة لهما وساحة بدلا من وطن.

وهنا يتبادر إلى الذهن مثال حياد سويسرا أو حياد النمسا، البلدين المعلنين لحيادهما من دون أخذ موافقة الدول المجاورة لهما. فحياد بلد معترف بحدوده دوليا وبشرعيته على إقليمه وعلى شعبه وعلى دولته واستقلاله الناجز، لا يتطلب خضوع هذا البلد المعني لإرادة البلدان المجاورة ولا يحتاج لموافقة مسبقة لإعلان حياده. فالشرط غير الواقعي وغير المطلوب وفقا للقانون الدولي الذي اخترعه جبران باسيل، إنما هو لرفض الحياد وتبريرا للالتصاق بإرادة حزب الله.

أما ذروة تناقض جبران باسيل فتمثلت باشتراطه "الإجماع الداخلي" على الحياد، أي اشتراطه موافقة حزب الله المسبقة على ذلك. ويعلم جبران باسيل أن حليفه حزب الله لم ولن يعير وزنا للإجماع الداخلي. فحليفه، تجاوز الإجماع الداخلي مرة تلو المرة من دون استئذان القوى الداخلية الوطنية. فمنذ عقود يتسلح حزب الله ويزداد تسلحا من خارج الشرعية، ويستعمل سلاحه في الداخل كما في الخارج من دون إجماع وطني. شارك في حرب سوريا، وفي العراق واليمن، من دون إعارة الإجماع الداخلي أي اهتمام. يعلن الحرب على إسرائيل أحاديا بقرار إيراني ولا يهتم لمواقف الداخل ولا للإجماع الداخلي ضارباً عرض الحائط موافقة السلطات الدستورية من عدمها. بالتالي من المفروغ منه أن هذا الحزب لن يتخلى عن سلاحه الإيراني المصدر و"الهوى" ولو أجمع كامل الشعب اللبناني في الداخل والخارج على نزع سلاحه أو على التزام الحياد.

إذن، هي معادلة بسيطة جدا تتكون في لبنان أيامنا الحالية، مضمونها الجلي يفيد بوضوح بأن الحياد هو السلام والاستقرار والهدوء والتفرغ لاستعادة بناء الدولة ومؤسساتها، بينما رفض الحياد يعني الحرب المتكررة المسببة للدمار وللخراب وللفقر وللعوز وللدويلة مقابل الدولة.

ولكنّ النائبة الأكبر هي أن باسيل يعلم أن خلاص لبنان يتأتى من خلال وحدته الوطنية ووفاقه الداخلي وحياده لا بأن يكون لبنان مخزنا ومستودعا ومقرا للصواريخ الإيرانية! وهو ما يبدو أنّ باسيل اختار الثانية.

لبنان اليوم أمام الحياد والتسليم بعروبة لبنان أو أنه ينتظر المزيد من الويلات!

 

نقلا عن العربية نت

سبت, 25/07/2020 - 18:22