بينما يملأ المواطنون الأتراك الشوارع والطرقات على وقع الأهازيج الحماسية والأناشيد الوطنية احتفاء بالذكرى الثانية لفشل المحاولة الانقلابية، تواصل مؤسسات وأجهزة تركية عديدة معركة "الوجود" التي بدأتها قبل سنتين ضد جماعة الداعية التركي فتح الله غولن.
حفلات بهيجة في الشوارع والإعلام وجلسات تحقيق وحرب مفتوحة تقودها الدولة التركية ضد منظمة غولن مؤسسات وأفرادا، هكذا تبدو الصورة بعد عامين من المواجهة بين الدولة والتنظيم.
فجر الانقلاب
مع انبلاج فجر السادس عشر من يوليو/تموز 2016 كانت العلاقة الوثيقة التي نسجت خيوطها عبر سنوات عديدة بين حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان وحليفه السابق غريم اليوم فتح الله غولن قد وصلت إلى أعنف مراحلها بعد سنتين أو أكثر من التراشق الإعلامي والسياسي، ومع فجر ذلك اليوم انطلق الانقلاب العسكري ساعيا إلى وضع حد نهائي وفاصل لنظام أردوغان ومسيرة العدالة والتنمية.
استطاعت جهود شعبية وأخرى عسكرية إفشال الانقلاب العسكري، وكتب الأتراك لوحة جديدة من الالتفاف حول أردوغان. وخرج أرودغان كأسد جريح ليواجه ما يصفه بالمؤامرة الكبيرة للإطاحة بنظامه.
وسارع المسؤولون الأتراك في الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية الفاشلة إلى توجيه أصابع الاتهام إلى جماعة غولن بالوقوف وراء المحاولة الفاشلة التي هزت تركيا وكادت تسقط النظام وتعيد خلط الأوراق بعد سنوات من الاستقرار السياسي والاقتصادي.
ولم يتأخر الأمر كثيرا حتى أعلن عن فرض حالة الطوارئ وباشرت السلطات التركية في المواجهة الداخلية الكبرى في تاريخها لمحاولة استئصال ما تحسبه وجودا عميقا ومتغلغلا لمنظمة غولن في مختلف الأجهزة والمؤسسات التركية وفي مقدمتها المؤسسات العسكرية والأمنية والقضائية.
المحطة الأخيرة
وبعد عامين من المواجهة المفتوحة يحاول المسؤولون الأتراك إعطاء انطباع باقتراب وصول قطار الملاحقات والاعتقالات إلى محطته الأخيرة، رغم أن الصفحة الأخيرة في هذا الملف لن تطوى قريبا على الأرجح، بحكم أن زعيم الجماعة والمتهم الرئيسي بتدبير المحاولة ما زال بعيدا عن يد العدالة التركية، ثم إن القضاء لم يقل بعد كلمته بشأن آلاف وربما عشرات آلاف المعتقلين على ذمة هذا الملف.
ورجح المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن رفع حالة الطوارئ التي فرضت بعد فشل المحاولة الانقلابية، وتوقع أن يعلن عن ذلك في الثامن عشر من يوليو/تموز الجاري (أي بعد يومين)، وهو مؤشر قوي على اطمئنان السلطات التركية لتراجع وربما تلاشي خطر المنظمة ذات الحضور القوي في المؤسسات التركية.
ونقلت صحيفة العرب القطرية عن السفير التركي في الدوحة فكرت أوزر قوله إنه "تم تطهير مؤسسات الدولة من نسبة 80% تقريبا من عناصر تنظيم فتح الله غولن الإرهابي الذين تسلّلوا في مختلف المؤسسات وهياكل الدولة، ومؤسسات القطاع الخاص، بما في ذلك الجيش والشرطة والقضاء، ولم يعد بإمكانهم القيام بمحاولة انقلاب عسكري مماثلة، لكن لا بد من الحيطة والحذر".
وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إن تركيا نجحت في جلب أكثر من 100 من قيادات المنظمة. وقال في مقابلة مع قناة سي أن أن تورك المحلية "أستطيع القول إننا جلبنا خلال عامين أكثر من 100 من قيادات منظمة غولن من العديد من البلدان".o
ويرفض زعيم جماعة الخدمة فتح الله غولن الاتهامات جملة وتفصيلا، ودعا أكثر من مرة لفتح تحقيق دولي في المحاولة الانقلابية الفاشلة.
ورغم نفيه المطلق لأي علاقة له بالمحاولة الانقلابية فقد اعترف العام الماضي في حوار مع فرانس 24 –حسب ما ودر في موقع القناة- أنه التقى رجلا له صلة بالانقلاب على الرئيس أردوغان، ولكنه نفى أي تورط في العملية نفسها.
اضطراب أميركي
رغم ضغوط أنقرة المستمرة ما زالت واشنطن ترفض تسليم غولن لتركيا، ولكن الأشهر الأخيرة حملت تطورات لافتة في تعاطي واشنطن عموما مع هذا الملف.
ففي يونيو/حزيران الماضي، قال جاويش أوغلو في تصريح لقناة محلية إن واشنطن أبلغتنا بمعلومات حول قيام مكتب التحقيقات الفيدرالي، بفتح تحقيقات تتعلق بتنظيم غولن الإرهابي في حوالي 20 ولاية أميركية. ولكنه قال لاحقا "نريد أن تكون هذه التحقيقات قطعية وتأتي بنتائج".
كما أفردت صحيفة واشنطن بوست في عددها الصادر يوم 15 يوليو/تموز الجاري، صفحة كاملة للحديث عن منظمة غولن. وأفادت وكالة أنباء الأناضول أن هذه الخطوة جاءت بناء على طلب اللجنة التوجيهية التركية الأميركية (غير حكومية)، التي تضم نحو 150 منظمة مدنية تحت مظلتها.
وقال وزير الخارجية التركي إن بلاده شكّلت 3 مجموعات عمل مع الولايات المتحدة، مبينا أن مجموعة العمل المتعلقة بالشؤون القنصلية والقانونية التي تضم أيضا منظمة غولن اجتمعت بأنقرة الجمعة الماضي.
معتقلون ومفصولون
وتمثل الاعتقالات والملاحقات التي استهدفت المتهمين بالعلاقة بالمنظمة أحد أهم فصول وعناوين المواجهة بين "الدولة" و"التنظيم"، وتتفاوت التقديرات التي تنشرها مؤسسات إعلامية وحقوقية حول طبيعة وأعداد هذه الاعتقالات.
وتفيد بعض التقديرات أنه قد ألقي القبض على عشرات آلاف الأشخاص، ثم أفرج عن أكثر من نصفهم بعد انتهاء التحقيقات. وتقول منظمات حقوقية إن الاعتقالات شملت عسكريين بينهم عدد من أصحاب الرتب العسكرية العالية، بالإضافة إلى معلمين وأكاديميين وأطباء وموظفين حكوميين.
وبلغت أعداد الذين فصلوا من وظائفهم 18632 شخصا، بينهم أكثر من 9000 من العاملين في جهاز الشرطة، و6000 من عناصر القوات المسلحة، حسب ما جاء في مرسوم قانون نشر قبل أيام في الجريدة الرسمية.
بينما تفيد منظمات حقوقية أن أكثر من 100 ألف شخص أقيلوا من وظائفهم، بينهم أكثر من 8000 عنصر في القوات المسلحة، و33 ألفا من العاملين في وزارة التركية، و31 ألفا من العاملين في وزارة الداخلية.
للعام الثاني، لا يزال ملف الانقلاب التركي مفتوحا في صفحاته الخارجية على احتمالات عديدة، ولا يزال غولن المطلوبَ الأول لدى نظام أردوغان، كما لا يزال أبرز عقبة أمام تطبيع أكثر بين أنقرة وعدد من العواصم الغربية في مقدمتها واشنطن.
المصدر : الجزيرة + وكالات,مواقع إلكترونية