تحدّث المعزُّون عن محاسن والدي كلها، يوم دفنه، في ما بقيت أكتشف محاسنه كل هذه السنين، أتذكّره في مواقف معيّنة، أستحضره حين أحتاج إليه، وأشعر بالفخر حين يوشوش لي البعض بأني أخذت مكانه في البيت.
يسكنني أبي، حتى إن لم أكتب عنه، ففي كل مجلس عزاء أتذكّره، وأبكيه. لا أشرح دموعي لأحد، هي تخصُّ أبي والسلام. تخيّلت دوما أن أكبر الخسارات في حياتي هي خسارته، لهذا هانت عليّ كل الخسائر بعده. واجهت صعابي لوحدي، لأني أصبحت وحيدة بدونه. لكن فجأة وفي ظروف قاسية مفاجئة ينتابني شعور بأنه تسلل بروحه إلى جسدي الحي، وجعلني أنهض. هل يفعل الموتى ذلك؟ هل هذه عادتهم مع الأحبة؟ هل هذا ما يقومون به حين ينجزون مهماتهم كلها في الحياة الدنيا؟
للموتى حياة ثانية، هذا ما أنا متأكدة منه. تبدأ تلك الحياة لحظة نتركهم في بيوتهم الأبدية ونعود إلى بيوتنا. تخرج من صناديق الصمت حكاياتهم التي لا نعرفها إلى السطح، تنكشف أسرارهم التي حرصوا على إخفائها، والمدهش أنّهم يقومون بدور آخر في حياتنا، قد يكون دورا إيجابيا في الغالب، حتى إن كان ناقصا حين كانوا أحياء. تبوح لي صديقة بأنّها لم تعرف ما معنى عناق أب، ولا معنى الكلمة الطيبة من والدها، إلى أن توفيّ، حيث عانقها الجميع للتخفيف من مصابها، في ما كان حزنها لسبب آخر، فقد عانقته ميتا للمرة الأولى والأخيرة قبل تكفينه، وذلك لم يمح جوع العمر كله إليه كأب. لكن ـ ويا للمفاجأة- فذلك الأب الشديد القسوة، الصارم في البيت، كفل أيتاما، وظلّت يده ممدودة للمحتاجين، وأوصل البعض لبرّ الأمان بعد فقدانهم لآبائهم. وقد تحدّث بعضهم واصفا إياه بالأب الروحي له… فكان ذلك الاكتشاف الثاني لوالدها.
خطر ببالي هذا الموضوع برمته وأنا أكتب عن الأستاذ رياض الريّس، لقد باحت الأقلام بالكثير مما لم يُكتب عنه، ولعلّي شخصيا لم أتشجّع على الكتابة عنه في حياته، لأنّه كان كارها للمجاملات، ولطالما اعتبر المديح ثرثرة من باب التملُّق، وكانت له هيبة جعلتنا جميعا نقف عند الخطّ الذي رسمه للجميع. أمّا ما كُتِب بشأنه بعد وفاته، فأظنّه ليس مدرجا تحت قاعدة «أذكروا محاسن موتاكم»، فقد كتبت لأني في قرارة نفسي أدركت أن وفاته ليست سوى ولادته الثانية، وأعتقد أن هذا الدافع مشترك بيني وبين من كتبوا عنه، فنحن نعرف كتبه، والقليل عن شخصه، وها قد حان الوقت لقول الكثير مما لا نعرفه.
يموت المبدع وتنبعث قصصه من أفواه من عايشوه، الحكّاؤون الذين ملأوا الدنيا بحكاياتهم، وشغلوا الناس بآرائهم، يتحوّلون في نهاية المطاف إلى «قصّة»، وكأنّ كل ما فعلوه. سلفادور دالي تعلّق اسمه بالطرائف والحكايات، وهو لم يكن يُفَوِّت مناسبة إلا وقام باستعراض مثير يعلق بالذاكرة، حتى الجمهور الذي لا يحبه كفنان، يحب سلوكياته الغريبة، التي راجت بعد وفاته، فقد طُرد ثلاث مرات من الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة، وتضاربت الآراء بين طرده بسبب مشاركته في مظاهرات الطلاب، وتعاليه ورفضه الخضوع للامتحانات الشفوية، كونه اعتقد دائما أنه أكثر ذكاء من معلميه الثلاثة، فرفض أن يقوموا باستجوابه، وكانت نتيجة تصرفه هذا الطرد للمرة الثالثة. الحكاية أخذت أبعادا بطولية بعد موته، ورمزا للتمرّد في أقوى صوره. يذكر في ما يذكر عنه أنّه افتتح أحد معارضه وهو ينهض من تابوت، كما دخل محاضرة مرة عن الغوص، وهو يرتدي ثياب غوص… لكن لعلّ أغرب قصة تروى عنه تتعلّق بشاربه الشهير، فقد رسم مرة لوحة به، كما أصدر كتابا يحتوي ثمان وعشرين صورة له، وقد عنونه بـ»شارب دالي» صديق شفته العليا، أمّا أقوى ما روي عنه على الإطلاق، أن شاربه ظلّ على حاله حين فتح قبره بعد ثلاثين سنة من وفاته ووجد سالما، كما حين كان حيا ومحافظا على استقامته. ملأت هذه القصّة الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي سنة 2017، ولعلّها لم تصلنا بالحرارة نفسها، كوننا غرقنا في قصص أكثر مأساوية وقساوة يعيشها عالمنا العربي.
للموتى حياة ثانية، هذا ما أنا متأكدة منه. تبدأ تلك الحياة لحظة نتركهم في بيوتهم الأبدية ونعود إلى بيوتنا. تخرج من صناديق الصمت حكاياتهم التي لا نعرفها إلى السطح، تنكشف أسرارهم التي حرصوا على إخفائها، والمدهش أنّهم يقومون بدور آخر في حياتنا، قد يكون دورا إيجابيا في الغالب، حتى إن كان ناقصا حين كانوا أحياء.
لكن تراثنا يزخر بقصص مغايرة، نذكر كيف طمرت الكتب الجاحظ فمات، نحفظ هذه القصّة لأنّها قصيرة جدا وطريفة، وهي كل ما تبقى في ذاكرتنا الجماعية، للتلذذ والانتقام من «أصحاب الكتب»، وربما لهذا السبب يذكر البعض قصة السيدة التي أخذت النجّار معها ليرى عينيه الجاحظتين، ويصنع لها دمية مخيفة مثله، ترعبُ بها ابنها، وهي قصة محزنة، تُروى عن مثقف سبق زمنه في ابتكاره لسبل التفكير السليم القائم على الشك والنقد والتجريب. ولعلّ من يعرفون اليوم عدة عناوين من تركته الفكرية والأدبية الثرية قليلون جدا، رغم توفٌّرِ أدوات البحث والمواقع التي تبنت نشر مؤلفاته. الناس تتذكر محمد عبد الوهاب، ونجيب محفوظ أنّهما يخافان من ركوب الطائرة، وقد قيل إن طه حسين أيضا عانى من هذا الخوف، وقد نتقبل هذا النوع من الفوبيا، لكننا أبدا لن نتقبل أن نابليون وهتلر وكلاهما غزا العالم، يخافان من قطة، حتى إن كانت صغيرة ولطيفة!
نسرد هذه النّوادر ونضحك، ولا نملٌّ من تكرارها عشرات المرّات، ولا أعرف لماذا، هل من باب طرافتها ومخالفتها للمألوف؟ أم من باب التنبيه لنقاط ضعف أي شخص مهما كان جبّارا؟ بالتأكيد حرص رجال من طينة نابليون وهتلر وموسوليني ويوليوس قيصر، وكلهم عانوا من فوبيا القطط على إخفاء هذه الأمر عن العامّة، لأنّه يكسر صورة الجبروت الذي يمثلونه، وقد سعى محيطهم المُقَرّب على جعل السرّ مكتوما حفاظا على سمعتهم العسكرية والسياسية، إلى أن رحلوا فتحرّروا من عبء إخفاء السر، الذي تحوّل إلى قصّة أو طرفة للسخرية من أولئك الرّجال الذين أرعبوا العالم.
اهتمت السينما خاصة الأمريكية بالحكايات الشخصية للمبدعين والمشاهير، التي تبرز بعد وفاتهم، فيحولونها إلى أفلام. على سبيل الذكر لا الحصر، نتذكر معا فيلم «ثائر في حقل الشوفان» الذي يروي سيرة الكاتب جيروم ديفيد سالينجر، الكاتب الذي حين يخونه الوحي، يخلع ثيابه، ويستحضره وهو عارٍ تماما، يخرج إلى البرية بسيارته، حاملا آلته الكاتبة، يجلس على صندوق ويكتب وهو مستمتع بسيجارته، وقد جسّد دور سالينجر الممثل الممثل والمغني وعارض الأزياء الإنكليزي نيكولاس هولت. توفي سالينجر في 2010 إثر كسر في وركه وقد ناهز الـ91 عاما، وقد أوصى ألاّ تقام له جنازة. روت ابنته ذلك في كتاب عن سيرته، وكشفت أنه مفتون بالهندوسية والبوذية. أحب سالينجر امرأة في بداية الأربعينيات هي أونا أونيل، ابنة المسرحي أوجين أونيل، ولكنها تركته وتزوجت تشارلي شابلن، بعدها لم تستحوذ المرأة على عواطفه، تزوّج مرتين على فترتين قصيرتين جدا، وانهى زواجه بالطريقة نفسها، ثم غادر نيويورك، وعاش في بلدة كورنيش الصغيرة في نيوهامبشر، لا يلتقي سوى صديق واحد، الفضوليون ظلّوا يترصدون تحركاته، محاولين اختراق عزلته. وحينما سمع أن الكاتب الإنكليزي إيان هاميلتون يريد نشر سيرته الذاتية، التي تحتوي على رسائل كتبها لأصدقاء ومؤلفين، لاحقه قضائيا، ولكن تفاصيل الكتاب خرجت للعلن، وسالينجر تحوّل إلى أسطورة، فيما التصقت به عبارة «الكاتب الذي يكتب عاريا»…
أكثر من كاتب اختصر بعبارة تروي جزءا غريبا من حياته، فلاديمير نابوكوف «الكاتب الذي يكتب واقفا»، إلياس ترومن يصف نفسه بالكاتب الأفقي، كونه كان يكتب وهو ممدد على سريره أو على أريكة بسبب أوجاع ظهره، فيليب روث يمشي ما يقارب الـ800 مترا كلما أنهى صفحة، لهذا يمكن معرفة المسافة التي قطعها من عدد صفحات كتبه، ويبدو أنه دار حول العالم عدّة مرات لو مشى تلك المسافة خارج غرفته. قصص كثيرة متعلّقة بحياة المبدعين تصبح لها قيمة أكبر بعد وفاتهم، أكثر إبهارا من أدبهم نفسه، حتى أن قبور بعضهم تتحوّل إلى مزارات، يقصدها السواح من كل بقاع العالم، لا للبكاء بل لمقاسمة فرح عارم معهم، في لقاءات تشبه لقاءات الأحبة الأحياء.
القدس العربي