حرباء أذربيجان

صبحي حديدي

الحرب الدامية التي تدور اليوم بين أذربيجان وأرمينيا تنطوي على ملابسات واضحة، لعلّ المعارك الجيو – سياسية والنفطية في رأسها؛ وأخرى أقلّ وضوحاً، تعكس صراع السرديات والحقوق والمصالح، وكذلك «الغموض المفضوح» الذي تنهض عليه مواقف تركيا وإيران وروسيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي لصالح هذا الطرف أو ذاك. لافت، وإنْ كان محزناً في المقام الأوّل، أنّ الحال الراهنة تعيد إلى الأذهان العقود الأولى من القرن العشرين؛ وتذكّر، في المقام، بشخصية فريدة متعددة الهويات، استحقت عن جدارة صفة الحرباء المتلونة: أسعد بيك، في اسمه المستعار الأوّل؛ أو قربان سعيد، في الاسم الثاني؛ أو، أخيراً، ليف نسيمبوم (1905- 1942) اسم الولادة الحقيقي.
ولد نسيمبوم في العاصمة الأذرية باكو، لأسرة يهودية من الأغنياء الجدد الذين أثروا عن طريق النفط حين كان نصف بترول العالم يمرّ عبر باكو، الأمر الذي وضع ثرواتهم تحت خطر المصادرة بعد ثورة تشرين الأول (أكتوبر) في روسيا؛ ففرّت الأسرة في سنة 1918 إلى إسطنبول، ثمّ إلى باريس، وبرلين، حيث أكمل الفتى دراسته الجامعية بالاسم المستعار أسعد بيك نسيمبوم، معلناً أنه مسلم الديانة، ومن أقرباء أمير بخارى. ولقد أخذ ينشر مقالات أدبية وسياسية واقتصادية سرعان ما أكسبته صفة «الخبير في شؤون الشرق»، قبل أن ينضمّ إلى «الرابطة الألمانية -الروسية ضدّ البلشفية»، والتي ستفرّخ الكثير من القيادات النازية فيما بعد؛ وإلى «الحزب الملكي الألماني»، ثمّ حركة «روسيا الفتاة» الفاشية. وفي سنة 1933 سافر إلى نيويورك لفترة وجيزة، حيث عقد صداقة وطيدة مع جورج سيلفستر فيريك (صديق فرويد وأينشتاين، الذي سيُعتقل لاحقاُ بوصفه أكبر عملاء النازية في أمريكا)؛ ثمّ عاد ليقيم في فيينا حتى سنة 1938 حين افتُضح أمر ديانته اليهودية، ففرّ إلى بوسيتانو في إيطاليا، حيث توفي سنة 1942.

ضمن كتلة أدبيات الاستشراق على صعيد كوني، تتمثّل خطورة نسيمبوم في أنه هيمن فعلياً على التفكير الرسمي، فضلاً عن الكثير من أنساق التفكير الشعبي/ الشعبوي، في ألمانيا وإيطاليا والنمسا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي

وعلى سبيل تدوين سيرته الشخصية، وكذلك الإدلاء بدلوه في علاقة النفط بالسياسة، وضع نسيمبوم كتاباً مثيراً تماماً، لعله كان رائداً في موضوعه أيضاً، بعنوان «الدم والنفط في الشرق»؛ وقّعه باسمه المستعار الأوّل أسعد بيك، وصدر بالألمانية سنة 1930 ثمّ أعيدت طباعته سنة 1997. حتى ذلك الحين كان قد أفلح في إخفاء ديانته اليهودية، ليس في أذربيجان أو روسيا أو جمهوريات الاتحاد السوفييتي، فحسب؛ بل كذلك، والأطرف بالتأكيد، في ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية! هناك، كما في النمسا النازية أيضاً، ذاع صيته كواحد من أفضل كتّاب العصر المناهضين للشيوعية ودعاة الأفكار اليمينية، فنشر نحو 16 كتاباً، وكانت وزارة الدعاوة النازية تدرج مؤلفاته في لائحة «الكتب الممتازة للأدمغة الألمانية»؛ كما صار قاب قوسين أو أدنى من كتابة السيرة الرسمية للزعيم الإيطالي الفاشي بنيتو موسوليني، لولا انكشاف ديانته في اللحظة القاتلة.
حياة حافلة، كما يتوجب القول، الجانب الأكثر إثارة فيها أنّ قيمة نسيمبوم على الصعيد الأزري المحليّ لا تنهض على أيّ من هذه الأسفار والأسرار والأسماء المستعارة، بل تكاد تقتصر على تفصيل واحد وحيد: أنه، باسمه المستعار قربان سعيد، مؤلف رواية «علي ونينو»، 1937، التي تروي حكاية الغرام المستحيل بين علي، الفتى الأذربيجاني المسلم الشيعي؛ ونينو، الفتاة الجورجية المسيحية. (نشرت دار الحصاد السورية ترجمة لهذه الرواية، في سنة 2005، لكنّ المترجمة أميمة البهلول عجزت عن ردّ الرواية إلى نسيمبوم، فاعتبرت أنّ «من المستحيل معرفة الاسم الحقيقي للكاتب»). مدهش إلى هذا أنّ الكثير من الأزريين لا يصدّقون، حتى اليوم، أنّ المؤلف كان يهودياً، ولهذا لم يكن غريباً أن يتحوّل النصّ إلى أشهر قصة حبّ في أذربيجان من جهة أولى؛ وأن تنقلب القصة الغرامية إلى ملحمة وطنية تعبّر عن طموح البلد إلى الاستقلال عن السوفييت!
وضمن كتلة أدبيات الاستشراق على صعيد كوني، تتمثّل خطورة نسيمبوم في أنه هيمن فعلياً على التفكير الرسمي، فضلاً عن الكثير من أنساق التفكير الشعبي/ الشعبوي، في ألمانيا وإيطاليا والنمسا خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي. والمرء يدرك أثر مؤلفاته حين يتذكّر أنه لم يكتب عن النفط الدامي والغرام الرومانسي، فحسب؛ بل كتب سيرة النبيّ محمّد، كما روى حكايات عن الشرق لم تكن أمينة لأيّ شرق آخر سوى ذاك المتخيَّل الذي يتشهاه القارىء الغربي. ليس هذا في ما يخصّ السحر والجان والمحظيات والقيان وتنميطات ألف ليلة وليلة المكرورة ذاتها فقط، بل أيضاً وأوّلاً الممالك والإمارات المصمَّمة على نحو يزيّف احتمال وجود أية سياسة إسلامية، فضلاً عن تسليم تصاريف الدار والأقدار إلى الدراويش والمتصوّفة والمشايخ أصحاب الطريقة.
وفي كتابه «المستشرق: حلّ لغز حياة غريبة وخطيرة»، الذي صدر بالإنكليزية سنة 2005 في 464 صفحة، ولعلّه السيرة الأكمل لحياة وأفعال نسيمبوم؛ ينبش الكاتب الأمريكي توم رايس مئات ملفات الشرطة ورسائل الحبّ والمذكرات والهوامش المتصلة بمحطات حياة نسيمبوم، في عشرات المواقع، وعبر جمهرة أفراد واسعة النطاق ومذهلة التنوّع، تبدأ من ورثة السلطنة العثمانية إلى بارونات النفط، ولا تنتهي عند مغنيات الأوبرا وكبار ضباط الرايخ الثالث. وليس أقلّ عجباً، بالطبع، أنّ «علي ونينو» تواصل حضورها في الوجدان الشعبي الأذري اليوم، وتذكّر دائماً بالحرباء المتلونة؛ على وقع حروب النفط و… السرديات!

القد س العربي 

اثنين, 09/11/2020 - 08:58