في العالم العربي تناقض يزداد وضوحا بين أنظمة سياسية تدير شؤونها من الأعلى للأسفل، وقلما تنجح في الإستماع لنبض الشارع ومعاناته، وبين أجنحه سياسية في ذات النظام السياسي تواجه درجات من العزلة ولديها آراء نقدية وإصلاحية. معظم النخب المسيطرة في العالم العربي قلما تؤمن بالأسلوب التشاركي أو الحقوقي والديمقراطي. لكن بنفس الوقت يوجد في كل ديوان ملكي وجمهوري عربي جناح يشعر بالغربة وينتظر فرصته لتجربة تصورات اكثر تحسسا لآلام المجتمع ومهمشيه، بل لدى هذا الفريق رؤى حول المصالحات الوطنية والمساومات مع القوى المعارضة. لهذا من الطبيعي أن ترتفع حدة الصراع المستتر كثيرا والمعلن أحيانا في النظام العربي حول كيفية التعامل مع العدالة الإجتماعية كما ومع الحراكات السياسية المختلفة والحريات. فمن نتائج ما وقع في 2011 تكثيف الإختلاف بين النخب المؤثرة حول التعامل مع الأوضاع، فبعضها يرى أن الحل الامني والتعسفي هو مفتاح الحلول في كل زمان ومكان، بينما بعضها الآخر يؤمن بإصلاح سياسي واقتصادي يؤدي لتغيرات في علاقة الشعب بالقصر وبالنخبة وبالدولة.
لكن الواضح بنفس الوقت أن القوى الإصلاحية في النظام العربي ضعيفة ولن تستطيع التحرك إن لم يقع تحرك ما من قبل الشارع يـؤدي لفتح أفق إصلاح النظام السياسي. بل من الطبيعي أن تكون هذه الحقبة التي نمر بها في الإقليم مكونة من لحظات إنتظار. وهذا يعني بأنه يجب أن تصل حالة الديون وسقوط العملة والغلاء الفاحش والفشل الإقتصادي والإجتثاث السياسي والتعسف والتحالف مع ترامب وربما في بعض الحالات مع إسرائيل لنهايتها الطبيعية، وذلك قبل ان تتحرك الطبقات الوسطى والشعبية للتعبير عن سخطها.
وعلى سبيل المثال لم تشهد مصر، رغم ضخامة بعض المشاريع (التي قلما تصل للمواطن) وضعا اقتصاديا سلبيا يمس جيب المواطن كالوضع القائم اليوم، ورغم سعي شخصيات وطنية مصرية تحسب في الأساس على النظام إلا انه لم يسمح لها بالتعبير عن نفسها وأودع عدد منها في سجونه (رئيس الأركان السابق سامي عنان وفريقه على سبيل المثال). أن الخروج من هذا الوضع الشائك سيتطلب مبادرة الشعب ودوره. ففي باطن المجتمع المصري كما والعربي وضمن أنظمته نخب بديلة تشعر بالمأزق لكنها عاجزة أمام النخب المسيطرة. الصراع في أعلى الهرم في البلدان العربية سيتطلب صراعا آخر مساعدا له ومؤثرا عليه يصدر عن قاعدة المجتمع.
إن غلق أفق الآليات الانتخابية والتمثيل السياسي للمجتمع ستتحول لأحد أهم الأبعاد التي تتناغم مع الحرمان والتدهور الإقتصادي، إن غلق السبل السياسية السلمية هو الذي يؤدي الآن لبحث الناس عن منافذ جديدة تساعدها على تغير المعادلات، فالمجتمع عندما لا يجد امامه طريقا سلميا للتعبير عن مطالبه وحاجاته يختبر تحولات إحتجاجية مختلفة. هذا سيعني في المجال التاريخي انه لن يتبقى للناس بعد مدة سوى إنتزاع المساحة العامة من الشارع.
لنأخذ الأردن كمثال على هذا الوضع. ففي الأردن وقعت (حزيران/يونيو 2018) حالة شعبية هي الأخطر على النظام. وقد أدى حراك الشارع الأردني للتأثير على معادلة الدولة والحكومة. الأهم أن النظام الأردني تعامل مع الاحداث بذكاء، إذ شكل حكومة يترأسها رئيس للوزراء لم تعتد الأنظمة العربية على تعيين من يشبهه في موقع القرار. فرئيس الوزراء الجديد عمر الرزاز، وبغض النظر عن فرصه في تحقيق إصلاح حقيقي، يتميز بصفات لم نعتد على رؤيتها في النظام العربي المترهل. ربما يصح القول بأنه لولا الحراك الأردني لما أتى النظام بشخصية تعرف بأخلاقيتها ونزاهتها وباستقلاليتها وتعرف بنفس الوقت بمعرفتها بآليات النظام الدولي وبقربها من النظام السياسي دون ان تتطابق معه. الرزاز نتاج لأسرة مثقفة تمتلك عمقا عربيا ووعيا بحاجات المهمشين والمستثنيين من الطبقات الشعبية والوسطى.
هنا بالتحديد تنقسم المجتمعات العربية. فكتلة الشباب وكل من هم دون الاربعين من العمر تزداد راديكالية واستعدادا للمجازفة وكتلة الكبار تزداد التزاما بعدم التحرك خوفا من الوصول لحالة تشبه بعض الأنظمة العربية المنهارة والمدمرة كما هو الحال في سوريا وليبيا. التغير في المرحلة القادمة سيأتي عبر المدخل الاقتصادي، ففي الاقتصاد خير تعبير عن الفشل الإداري والسياسي المؤدي لإختفاء الطبقات الوسطى وتدمير الطبقات الشعبية. الاوضاع متشابكة في الواقع العربي وتحتمل أكثر من قراءة لكن الاستقرار ليس أحدها.
مع ذلك لا يمكن المراهنة على مدرسة الاصلاح العربي التي ربما لم يحن وقتها، فالأسلوب القديم مازال متحكما، والدول العربية ما زالت في مرحلة القمع والإنحياز للطبقات المتنفذة. إن تحول الأوضاع كما تؤكد التجربة الأردنية ثم بعض التجارب الاخيرة في المغرب (مقاطعة إقتصادية فاعلة وحراكات شعبية) تهدف لخلق حالة وعي بالمطالب الشعبية كما تهدف لخلق آليات ضاغطة على النظام السياسي. ويمكن القول بأن حراكات الشارع في المرحلة المقبلة ستقرر مدى قدرة النخب العربية الإصلاحية على أخذ المبادرة وطرح حلول جادة للمشكلات المزمنة.
لن تقدم الأنظمة الإصلاحات والتنازلات على طبق من فضة، فهذا أمر صعب بسبب تمترس النخب المؤثرة وبسبب عدم مقدرتها الاستدارة والابتعاد عن نهج صار له زمن طويل. إن مقدرة الناس على تشكيل كتلة تغير حرجة هي جوهر التغير في المجتمعات العربية في المرحلة القادمة، لكن ذلك ايضا لن يقع بلا درجات من التفاعل مع بعض النخب صاحبة الرؤى المغايرة والنهج الاصلاحي.
القد س العربي