نظام عالمي جديد يتشكّل.. والصين في المقدمة (الحلقة الأولى)

أحمدو ولد المصطفى

في الجغرافيا السياسية، كما هو الحال في العديد من المجالات الأخرى، هناك قواعد للتحليل الاستشرافي تمكّننا اعتمادا على البيانات الحالية من تصوّر السيناريوهات المحتملة في المستقبل. نستخدم هذه القواعد لفهم معاني الأحداث وتقديم تفكير متماسك، بناءً على عناصر واقعية ومنطق ملائم-كما يفترض-. لكن التوقعات التي تنتج عن هذا العمل لا تسير دائمًا كما هو مخطط لها. فالزمن-كما نعتقد- يجد متعته في نقض الفرضيات المطروحة.  
بناءً على هذه الملاحظة وكوني مجرد مراقب بسيط، وبالتالي لست متخصصًا في هذا المجال بأي حال من الأحوال، فقد نشرت مع ذلك سلسلة من المقالات في يوليو الماضي في صحيفة القلم، تحت عنوان "الصين تستيقظ والقيادة العالمي تتزلزل"، رجّحت فيها احتمال تراجع الإمبراطورية الأمريكية كأول قوة عالمية حقيقية. والامبراطورية الأمريكية العالمية لا تتضمن فكرة الهيمنة الترابية ولكنها تمارس هذه الهيمنة في بيئة دولية تكون واشنطن فيها، في الغالب، هي القائد والحكم بفضل قوتها الاقتصادية والمالية حتى لا أقول النقدية، وتقدّمها التكنولوجي وخاصة في مجال الاتصالات وتأثيرها الثقافي وتفوقها العسكري.
التفوق النسبي
وهناك مستوى آخر تنتشر فيه هذه الهيمنة الأمريكية، وهو هذا النظام المكون من شبكة عالمية من المنظمات المتخصصة، ولا سيما ما يسمى بالمؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، التي تخدم، كما هو مفترض، المصالح العامة، ويمتد مجال تدخلها إلى الكوكب بأسره. في الواقع، تلعب أمريكا دورًا راجحًا فيها، يمنحه لها وضعها كأول مساهم في موارد هذه المؤسسات ولأنها كانت أيضًا صاحبة فكرة إنشائها خلال مؤتمر بريتون وودز في عام 1944. تمارس قوتها هنا من خلال الحوار والتفاوض بحثًا عن إجماع رسمي، حتى ولو كان المصدر الحقيقي الوحيد للقرارات، في النهاية، ينبع من واشنطن.

ولكن للتركيز على جوهر التحديات التي تواجه ميزان القوى العالمي اليوم، نعود إلى المقالات المذكورة أعلاه حيث قلت أيضًا:
إذا كان التفوق العسكري للولايات المتحدة على بقية العالم، لا يزال مسلّما به، فالحقيقة أنه أصبح نسبيًا منذ أن دخلت أمريكا في مرمى الصواريخ العابرة للقارات الروسية والصينية التي تحمل رؤوسًا نووية، من المستحيل اعتراضها، وعلاوة على ذلك تفوق سرعة الصوت.
كان هذا تهديدًا استراتيجيًا حقيقيًا ليس بإمكان القادة الأمريكيين تجاهله، وهو ما يفسّر أن الرئيس نيكسون، في عام 1972، كان مضطرًا للاعتراف- من خلال معاهدة "سالت" التي وقعها مع الرئيس بريجنيف- بفكرة التكافؤ في الردع النووي. وهو ما يفسّر، كذلك، أنه اعتبارًا من ذلك التاريخ، كان على الولايات المتحدة أن تكتفي بالتسويات السياسية ولا سلم ولا حرب في بيئة دولية كانت تسمى في السابق الحرب الباردة.
إن حقبة الهيمنة العالمية والانتصارات الكاملة لن تظهر فعلاً حتى نهاية هذه الحرب الباردة بغزو العراق عام 1991. ولكن قبل ذلك، كان الأمر مختلفا، في كوبا والحرب المأساوية في فيتنام والسقوط المهين لسايجون الأمريكية. كما كان على الحكومة أن تمر بعدة انتكاسات أخرى: في أنغولا (1976) وفي إيران (1978) وفي نيكاراغوا (1979) في وجه الاتحاد السوفيتي الذي دعم البلدان المذكورة.
اختفاء الثنائية القطبية
ولكن وراء هذه النجاحات السياسية، كان الاقتصاد السوفييتي في الرمق الأخير وسيزداد استنزافًا عندما قرر الاتحاد السوفيتي الانخراط في أفغانستان في حرب دموية كما كانت بلا جدوى (1980)، وأزهقت الكثير من الأرواح وصولا إلى الانسحاب أحادي الجانب الذي حدث في عام 1989 وكانت تلك الهزيمة سببا مباشرا أدّى إلى تفكك الاتحاد السوفياتي ذاته. كان ذلك بعد وفاة الرئيس بريجنيف عام 1982 وتنصيب الرئيس جورباتشوف في الكرملين عام 1985.

وهكذا، ومنذ وصوله إلى السلطة، بعد أن أخذ في الاعتبار الركود الاقتصادي في البلاد والهجوم الأيديولوجي المضاد للولايات المتحدة، تحت يافطة حقوق الإنسان، تعهد غورباتشوف بإعادة هيكلة المؤسسات المركزية للاتحاد السوفيتي والحزب الشيوعي الذي كان عمودها الفقري ولكن جهوده لم تكن ذات جدوى. 
وبالتالي فقد أدى فشل هذه المحاولة إلى: (1) احتجاجات شعبية في جمهورية ألمانيا الديمقراطية أدت إلى سقوط جدار برلين في عام 1989؛ (2) الاحتجاجات البولندي ةبقيادة الزعيم النقابي ليخ فالسا الذي سيصبح أول رئيس بعد الشيوعية في عام 1990؛ (3) ظهور النزعات القومية في دول البلطيق (ليتوانيا ولاتفيا ...) وفي القوقاز (جورجيا وأذربيجان وأرمينيا) وهو ما ساهم بشكل كبير في الانهيار المذهل للاتحاد السوفيتي في عام 1991.
وفجأة لم يعد العالم ثنائي القطب موجودًا وتجذّرت الهيمنة الأمريكية أكثر من أي وقت مضى؛ خاصة أنه طوال الحرب الباردة، وباستثناء الاتحاد السوفيتي، لم تتصوّر أي دولة أو مجموعة دول، للحظة واحدة، أنّ بإمكانها تحدى الولايات المتحدة على القيادة. كانت أوروبا الغربية بالفعل تحت نير منظمة حلف شمال الأطلسي، التي تسيطر عليها الولايات المتحدة، ولا تزال تعلن عدم قدرتها على تولي الدفاع عن نفسها. كانت الصين، تقريبا، على هامش لعبة الأمم هذه، منخرطة بهدوء في تطوير اقتصادها بطريقة مذهلة، بالاعتماد على النمو المطرد لتعزيز أمنها العام مع تحقيق هدفها الوطني العظيم المتمثل في ظهور مجتمع مرفّهٍ نسبيًا. 

كل ذلك أكّد أن عصر العالم ذي القطبيْن لم يعد موجودا وهو ما مهّد الطريق لغزو العراق، وهو أمر لم يكن من الممكن تصوره في أيام بريجنيف ولا حتى أيام أندروبوف. إن الطبيعة لا تحب الفراغ، وقد أدى هذا الانقطاع في ميزان القوى بشكل ميكانيكي إلى إنشاء نظام عالمي جديد وسمح للولايات المتحدة باستعادة مجدها الذي خسرته في فيتنام من خلال غزو العراق معلنة، بطريقة فظة، تفوقّها في هذا النظام العالمي الجديد.

نموذج جديد
وهكذا، كشفت الولايات المتحدة عن زهوها بانتصارها إثر انهيار الاتحاد السوفيتي المفاجئ، وكان كتاب فرانسيس فوكوياما بعنوان نهاية التاريخ، الذي نُشر في عام 1992 هو التعبير الأكثر إثارة عن ذلك الزهو. 
ولكن في الجغرافيا السياسية، فإن أي انقطاع في الميزان يتطلب بالضرورة قراءة جديدة وشبكة جديدة من التوقعات.
لذلك بالنسبة لأمريكا في ذلك الوقت كان الأمر يتعلق بإيجاد نموذج جديد. وبعد فوكوياما ، جاء صموئيل هنتنغتون الأكثر شهرة بسبب كتابه المدوي "صراع الحضارات" الذي نُشر في عام 1997. ففي هذه البيئة الدولية الجديدة سعت أمريكا إلى تحديد خصومها الجدد.
فتلك مقدمة أساسية للعبة الأمم: القوى العظمى تحتاج إلى خصوم من أجل الحفاظ على قيادتها، ويجب عليها خلق خصوم، إن لم تجدهم، حتى تردع المنافسين المحتملين؛ المتوسطين أو الصغار. القوى التي يمكنها في النهاية أن تتمرّد أو تلعب دورا في الاضطرابات. 
كان هذا هو السياق الذي نشر فيه صموئيل هنتنغتون بالفعل مقالاً عن موضوع صراع الحضارات ثم طوّره بعد ثلاث سنوات في كتاب شهير يحمل نفس العنوان. وتستند نظريته برمتها على هذه الفكرة القائلة بأنه من الآن فصاعدًا سيتم التعبير عن التناقضات بين الحضارات وأن أعداء المستقبل، بالنسبة لأمريكا، هم المسلمون والشعوب الآسيوية حيث تلعب الكونفوشيوسية دورًا ثقافيًا محددًا، متحدّثا عن الصين وفيتنام وكوريا الشمالية. 
لذلك سيكون "صراع الحضارات" النموذج الأنسب للتفكير في عالم ما بعد الحرب الباردة. وهكذا، وبشكل قاطع، وبدون أي مرجع واقعي، أصدر هنتنغتون قرارًا بأن العالم الإسلامي والشعوب الآسيوية هي الأكثر عداءً لأمريكا بشكل خاص والغرب بشكل عام.

كيف يمكننا أن نرتكب هذا الخطأ الجسيم في تقييم العلاقة بين الغرب والشرق، بتعميم فضولي ومبسط للغاية؟
ربما، لو كان الأمر يتعلق بمؤلف آخر، يفترض المرء أنها أطروحة تخفي فقرا في التفكير وصدمة بسبب تعقيد هذه العلاقة، لكن هنتنغتون كان عالمًا سياسيًا رائدًا وأحد أبرز المتخصّصين في الحرب الباردة، الذي يتصوّرون العالم، منذ عام 1945، قائما على استقطاب الشرق والغرب ومنطق الكتل.
ربما يكون هذا هو تفسير التعميم التي وصل إليه هنتنغتون في كتابه.
يتساءل المرء كيف يمكن للحضارات، في نهاية القرن العشرين، أن تصبح فجأة أبطال التاريخ، في حين أن انتصار مفهوم الدولة-الأمة، المولود في أوروبا، أدّى إلى انقسامات وصراعات دموية داخل الحضارات نفسها، وعلى وجه الخصوص داخل الحضارة الغربية طوال النصف الأول من هذا القرن وخاصة خلال القرن السابق.
إذن كيف يمكن أن نعتبر الإسلام خصمًا عالميًا للولايات المتحدة في عالم كانت فيه المملكة العربية السعودية ولا تزال الأكثر انصياعًا بين حلفائها؟ في عالم كانت فيه المغرب والجزائر بالفعل ولا تزالان خصمين، وإيران وسوريا في جبهة ودول الخليج في جبهة أخرى مقابلة (الأعداء لدرجة أنهم وصلوا الآن إلى السلاح في سوريا واليمن)؟ 
هل كانت عداوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وليبيا القذافي وحدها كافية لإيجاد عداء هيكلي للإسلام؟
تتركنا هذه الأسئلة في حيرة من أمرنا، لأنها تشير إلى شكل من أشكال خيبة الأمل الكبيرة، فيما يتعلق بمكانة الأستاذ البارز هنتنغتون الذي افتقر إلى الصرامة الفكرية هنا لأنه لم يأخذ في الاعتبار كل هذه الظواهر التي تتعارض بوضوح مع العولمة الثقافية والسياسية للعالم الإسلامي. بل إننا نشعر بالحيرة أكثر اليوم بسبب تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الدول الإسلامية ذات الأهمية الكبرى ودولة إسرائيل، التي تقدم نفسها على أنها رأس جسر للولايات المتحدة في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، تم خلق ما يسمى بالجماعات الإسلامية المتطرفة من قبل وكالة المخابرات المركزية، بتمويل من المملكة العربية السعودية (كما كتبه العديد من الباحثين وكشفه رؤساء سابقون لأجهزة المخابرات الغربية في مذكراتهم، ثم أكدت ذلك السيدة هيلاري كلينتون في كتابها الأخير، على الأقل فيما يتعلق بـتنظيم الدولة وجبهة النصرة وأقرّ بدلك ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، علنًا، العام الماضي في مقابلة أجراها مع محطة تلفزيونية أمريكية).
وماذا عن "الشعوب الكونفوشيوسية" إذا وضع المرء في اعتباره الخصومات التي دامت قرونًا بين فيتنام والصين أو مؤخرًا بين كوريا واليابان؟

اثنين, 01/03/2021 - 21:31