الاقتصاد و هوية الدولة

محمد طالب بوبكر

ان الاقتصاد يلعب دورًا حاسمًا ومركزيًا في تحديد هوية الدولة والمجتمع، بل لعله لا يغيب عن بال أحد أن العالم ظل على امتداد معظم القرن الماضي مقسوم إلى معسكرين متصارعين صراعًا مريرًا، وقد كان التمايز بينهما يتم على اساس نهجهما الاقتصادي، نعني بهما المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي، والذي كان يؤمن بالاقتصاد المقيد، وبسيطرة الدولة على الاقتصاد وتوجيهه، والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والذي يؤمن بحرية السوق وبانسحاب الدولة منه.

وفي ظل التمايز الاقتصادي الذي امتد ليكون تمايزًا اجتماعيًا وفكريًا جرت الكثير من أنواع الحروب بين مكونات المعسكرين، والتي لم تضع أوزارها إلا بعد أن انهار الاتحاد السوفيتي وتفكك معسكره، وقد أعاد معظم المحللين هذا الانهيار إلى أسباب اقتصادية في معظمها، مما يُقدم دليلاً على دور الاقتصاد في تحديد هوية الدولة ومدى قوتها وتماسكها.

لقد لعب الاقتصاد دورًا حاسمًا في تحديد طبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع وطبقاته منذ فجر التاريخ، حيث عرفت البشرية علاقات السادة والعبيد، وعلاقات النبلاء والاقطاع والفلاحين..الخ من هذه المسميات والتقسيمات التي قامت على أساس اقتصادي في معظم الأحيان.

لم يقتصر التمايز في الهوية على أساس اقتصادي عند حدود النظم الأرضية والدنيوية، بل امتد إلى النظم السماوية الدينية، وفي هذا السياق يأتي الحديث عن النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يُحرّم الربا والجشع والاستغلال، وهي من أهم مكونات الاقتصاد الرأسمالي خاصةً في نظامه المصرفي، مثلما يتناقض النظام الاقتصادي الاسلامي مع النظام الاقتصادي الشيوعي في الكثير من مكوناته، غير أن ذلك لا ينفي أن النظام الاقتصادي الاسلامي يلتقي مع بعض جوانب النظام الاقتصادي الحر، مثلما يلتقي مع بعض جوانب النظام الاقتصادي الشيوعي، لكنه في النتيجة النهائية يتمايز عنهما مثلما يتمايز كل منهما عن الآخر، وكل واحد من هذه الأنظمة الاقتصادية يطبع

الدولة التي تطبقه بطابعها، مما يؤكد أن الاقتصاد يلعب دورًا حاسمًا ومركزيًا في تحديد هوية الدولة.

ما تقدم يدفعنا إلى طرح مجموعة من الأسئلة حول مضمون هوية الدولة الموريتانية ، من خلال تبني النهج الاقتصادي الذي يجب أن تطبقه, آخذين بعين الاعتبار أن نسبة عالية من الموريتانيين  ترفض التعاطي بالربا، أي أنها ترفض نظام الفائدة التي يقوم عليها النظام المصرفي الرأسمالي على وجه الخصوص. وهؤلاء يرفضون أيضًا النظرية الإقتصادية الشيوعية. فكيف الخروج وأين يكمن الحل.؟ سؤال كبير تطرحه على الجميع لكنها تخص به فئتين هامتين على وجه الخصوص هما فئة الفقهاء ودورهم في إيجاد حلول عصرية للكثير من القضايا والمشكلات الإقتصادية التي تواجه الناس في حياتهم اليومية، وتثير في صدورهم الكثير من الأسئلة المصحوبة بالحيرة.

أما الفئة الثانية فهي فئة علماء الاقتصاد ورجال المال والأعمال، ودورهم في السعي لإيجاد نهج اقتصادي مناسب للمجتمع الموريتاني . مع التسليم بأن موريتانيا ليس قوة اقتصادية مؤثرة، لا على الساحة الاقليمية ولا على الساحة العالمية، على العكس من ذلك فإنه متأثر بالآخرين إلى درجة كبيرة، وهذه معضلة يجب أن ننتبه إليها ونحن نسعى إلى تحديد الهوية الاقتصادية للدولة الموريتانية .

وعلى هامش هذه المعضلة تثور جملة من الأسئلة حول هوية الاقتصاد الموريتاني المستقبلية مثل: إلى أي حد يمكننا انتهاج سياسات الانفتاح الاقتصادية وانفتاح السوق.؟ وكيف يمكننا أن نواجه التصدعات الناشئة عن نهج سياسيات انفتاح السوق من خلال التشريعات، ومن خلال تفعيل مفهوم المسؤولية الاجتماعية للدولة أولاً، وللمؤسسات والشركات الاقتصادية ثانياً، وما هو دور هذه المؤسسات والشركات في خلق بيئة اجتماعية متوازنة؟ وهل تتحمل هذة الشركات مسؤولياتها الأخلاقية من خلال تحملها لمسؤولياتها الاجتماعية التي تخفف من الأضرار الناجمة عن سياسات الأسواق المفتوحة؟ والسؤال الأهم هو إلى أي حد نستطيع احتواء الجهود المبذولة لإدخال تغييرات جذرية على النهج الاقتصادي وهوية الاقتصاد الوطني، وبالتالي على هوية الدولة وعلاقتها بمكونات المجتمع الموريتاني  .؟

فالهوية الاقتصادية تؤدى إلى توجيه الاقتصاد الوطني -فالدولة إذا اختارت مجال التصنيع فيكون لزاما على مؤسسات التعليم الوطنية أن تضع مناهجها لهذا الهدف. فمثلا تايلند صممت مقررات تعليمية في السياحة لأن هوية اقتصاد الدولة هو السياحة. منظومة الطرق والموانئ والمطارات خصصت لتحقيق هذا الهدف- فالميناء الذي يستقبل السفن السياحية يختلف عن الميناء الذي يكون الهدف منه تصدير الصناعات الثقيلة. لذلك كان من المهم لأي منظومة قوانين أن تكون الهوية الاقتصادية واضحة المعالم واجبة التطبيق لتحقيق رفاهية المجتمع وتحقيق الدولة .ومع الأسئلة المطروحة حول الهوية الاقتصادية للدولة، تثور مجموعة من الأسئلة، حول السلوك الاقتصادي لمواطنيها. لأن هذا السلوك يسهم هو الآخر في تحديد طبيعة هذه الهوية، ففرق كبير بين السلوك الاستهلاكي للأفراد وسلوكهم الإنتاجي، وقد عانينا ومازلنا من سيطرة النهج الإستهلاكي على مجتمعنا، مما يستوجب مجاربة هذا النهج، من خلال احياء ثقافة العمل والإنتاج، وإعادة الاعتبار لقيمة «عفة النفس» التي من شأنها القضاء على الكثير من انماط السلوك الاقتصادي السلبي، مثل الرشوة والتسول المقنع، وكذلك البطالة المقنعة، فهل ننجح في تحدي إصلاح أنماط السلوك الاقتصادي السلبية، في طريقنا إلى تحديد مضامين الهوية الاقتصادية للدولة؟هذه الأسئلة حول المكون الاقتصادي لهوية الدولة الموريتانية  مطروحة على المجتمع الموريتاني  كله، ونوعية الإجابات عليها تسهم إلى حد كبير في تحديد هوية الدولة في موريتانيا  للحقبة القادمة.

اثنين, 15/03/2021 - 16:40