تتنزل هذه الوقفة فى سياق إحياء ومواكبة هذا الفضاء الزماني المخصوص ؛ شهر رمضان المبارك ، وتسعى إلى المساهمة فى إشاعة وإذاعة ما يزخر به الإسلام العظيم من قيم إنسانية وسلوكية ، تظهر بجلاء صورته الحضارية الناصعة النابعة من الكتاب والسنة ، والمستمدة من الفهوم المستنيرة لعلماء الأمة ؛ طبقا لمرجعيتها الفكرية والعقدية الراسخة.
وتروم وقفتنا هذه التي نريدها -بحول الله ومشيئته- استهلالا لسلسلة وقفات رمضانية مع القيم الإسلامية ، استقراء مفهوم إسلامي مركزي هو "مفهوم الاعتدال " انطلاقا من مقاربة شمولية ، ترتكز من جهة على مرجعية التراث الإسلامي تأصيلا للمفهوم ، وتركن من جهة ثانية إلى منظور معاصر لاستكناه الأبعاد التاريخية والفكرية لتطور المفهوم فى الخطاب الإسلامي المعاصر ، وتتغيا المعالجة فى ضوء ذلك ربط "الاعتدال" كقيمة مركزية فى القرآن الكريم والسنة النبوية ، بتجلياتها فهما وسلوكا وتطبيقاتها فى حياة الفرد والمجتمع.
ولعل التأصيل والضبط اللغوي للمفاهيم هو المدخل والمنطلق السليم لكل وقفة بحث أورحلة استقصاء.
والاعتدال مشتق من الجذر اللغوي الثلاثي " عدل" ويندغم فى معناه : ( التوسط والقصد والاستقامة والتوازن والاستواء فى التفكير والعمل والسلوك...)
فالاعتدال هو الاستقامة والتوسط والإنصاف والموازنة والتزكية والخيرية..فهو رديف وقرين" الوسطية" التى ميز الله بها هذه الأمة ، بكل ما تحمله من معان عميقة ودلالات دقيقة.
وهكذا يغدو الاعتدال- بانتقالنا من منطوقه اللغوي إلى مدلوله الاصطلاحي - التزام المنهج العدل ، الأقوم والحق الذى هو وسط بين الإفراط والتفريط ، مما يناقض كل معاني ودلالات الغلو والشطط والتنطع والتشدد والإسراف والانحراف.
ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك ، ليجترح من المفهوم حقيقة كلية أعظم وأشمل ، فالاعتدال وفق هذه الرؤية مفهوم كلي كوني علمي ، لا يستقيم الكون ولا تنضبط الحياة البشرية إلا به ، فالكون كله قائم على التوازن والاعتدال .
وإذا شئنا بعد هذا التأصيل الدلالي والاصطلاحي ، أن نتتبع تيار الاعتدال من منظور تاريخي ، فسنجده ممتدا عبر العصور ، راسخا فى الشرع ؛ كتابا وسنة ، ضاربا فى أعماق التاريخ الإسلامي ؛ منهجا فى الفهم والتدين والسلوك والتعامل مع شؤون المجتمع والسياسة والاقتصاد.
ورغم عمق المفهوم فى التراث الإسلامي ، فإنه يحتاج إلى مزيد من التنظير والتجذير فى عصرنا الراهن ، حيث ظهر- أساسا- فى الأدبيات السياسية المعاصرة كمصطلح يستخدم فى سياق مواجهة سياسية فكرية محتدمة مع التطرف الحركي الذى أصبح نهجا للعديد من التيارات التى استقطبت الشباب منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي ، وبقي المفهوم حينئذ مشحونا بالانشغال الإيديولوجي؛ لكونه نشأ من رحم المواجهة السياسية ، وانحصر فى الدعوة إلى التعقل والتراجع إلى العمل السياسي السلمي ، وأعقبت ذلك مبادرات ودعوات انبثق بعضها من سياقات وأطر رسمية ، واحتضنتها مؤسسات دينية ، وكانت فى مجملها تصب فى إطار الدعوة إلى الاعتدال والوسطية ، وتبنى مفهوم حوار الحضارات كرد إسلامي على فكرة المواجهة والصدام.
وتظل الحاجة ماسة إلى ضرورة ربط مفهوم الاعتدال ربطا جدليا بتجلياته وتطبيقاته فى الفهم والسلوك ، فهو قناعة فكرية وسلوك عملي وعاطفة منغرسة فى وجدان الإنسان ، وضرورة علمية وحاجة عملية وموقف مبدئي ، تجاه مستجدات وقضايا العصر.
فالاعتدال-مثلا- فى الحرية ضرورة فلاكبت ولا فوضى ، والاعتدال فى العولمة ضرورة ، فلا انغلاق يتناقض مع متطلبات العصر ، ولا ذوبان ينافى الخصوصيات الثقافية والثوابت الحضارية والعقائدية.
إن حامل هذا الخطاب إلى الآخرين ، يجب أن يكون فكرة يترجمها سلوكه وتصرفاته ، فلسان الحال أبلغ من لسان المقال ، فلا مجال لأن يتصف بالاعتدال من لا يجسده فكرا معرفيا مستنيرا وسلوكا ميدانيا منظورا ، وإذ ذاك تغدو العلاقة جدلية بين هذين البعدين ، أو هي باستعارة مفاهيم المناطقة والبلاغيين علاقة علة بمعلول ولازم بملزوم.
ويبقى السؤال المركزي هو كيف لنا أن نوائم المنظومات التربوية والمناهج التعليمية ، بما يجعلها تعكس فكر وقيم الاعتدال ، وتنسجم مع استراتيجيات الخطاب والفهم الوسطي ، وتغرس فى أذهان النشء بذور الخير والمحبة ؛ سبيلا إلى صناعة جيل متشبع بالتراث الأصيل ، متطلع إلى الفكر الرصين ، منفتح بوعي على مستجدات العصر ومستوعب بعمق لأدوات التجديد ؛ تأسيسا لرؤية واضحة ومرجعية مدروسة ، موريتانية السياق ، عربية الهوية ، إسلامية المنطلق ، إنسانية التوجه ؛ سمتها التوازن وقوامها الاعتدال.