في 19 مايو/أيار 1798، الساعة 6 صباحا، غادرت أكثر من 300 سفينة ميناء تولون الفرنسي متوجهة إلى مصر. وإجمالا، أبحر ما يقرب من 54 ألف شخص، بينهم أكثر من 36 ألف جندي، تحت قيادة الجنرال نابليون بونابرت الذي قاد حملته على مصر وهو في سن التاسعة والعشرين.
أقلت تلك السفن على متنها أكثر من 160 مدنيا أيضا، من بينهم مهندسون معماريون وعلماء فلك وعلماء نبات ومهندسون ورسامون وأطباء ومستشرقون، وجميعهم كانوا يعدون "كعلماء وفنانين" من قبل الجيش. عالم الرياضيات غاسبار مونج والمخترع العبقري نيكولا جاك كونتيه والكيميائي كلود لوي بيرتوليه، كانوا هم أيضا جزءا من الرحلة التي ستشكل علامة فارقة في ملحمة نابليون ولكن ليس لأسباب عسكرية.
فبطل الحملة على إيطاليا لمس بوضوح تحول حملته على مصر إلى إخفاق تام وبعد عدة انتصارات عسكرية سهلة لجيش جيد التجهيز، مثل الاستيلاء على مدينة الإسكندرية ومعركة الأهرامات مع المماليك، غرق الأسطول الفرنسي في أبو قير في بداية شهر أغسطس/آب في معركة بحرية مع الإنجليز بقيادة الأدميرال نيلسون. حدث أصاب على الفور جيش الشرق بالشلل إضافة لوقوعه لاحقًا أيضًا ضحية لوباء الطاعون وتوقف توسعه تحت أسوار عكا. في 22 أغسطس/آب 1799، غادر الجنرال بونابرت إلى فرنسا، هربًا من البحرية الإنجليزية، تاركًا وراءه جنوده الذين اضطروا للاستسلام بنهاية المطاف في 31 أغسطس/آب 1801.
حملة تركت بصمتها على التاريخ رغم الفشل العسكري
مع أنّها كانت كارثة عسكرية بكل المقاييس، إلا أن حملة بونابرت على مصر التي كانت في الأصل عملية عسكرية تهدف إلى قطع الطريق إلى الهند أمام الإنجليز وتحرير الشعب المصري من طغيان أمراء المماليك الذين كانوا في السلطة آنذاك، ظلت مترسخة في الذاكرة بشكل أساسي وذلك بفضل أبعادها الثقافية والعلمية.
"حاول صناع الأسطورة النابليونية في البداية وضع انتصاراتها العسكرية في صدارة المشهد من خلال وصف بونابرت بأنه ’قاهر الأهرامات وأرض الفراعنة‘، لكن مع ما لاقته هذه الحملة بعد ثلاث سنوات من فشل عسكري، بعد أن استعاد العثمانيون والإنجليز السيطرة على مصر، صار التركيز أكبر على المساهمة العلمية والثقافية لهذه الحملة"، كما يوضح روبير سوليه، الكاتب والصحافي الفرنسي المصري ومؤلف العديد من الكتب عن الحملة الفرنسية على مصر في مقابلة مع فرانس 24.
إنها مساهمة هائلة لا تقدر بثمن بلا شك، كما يؤكد سوليه، بمعنى أن هؤلاء العلماء قد أنجزوا عملًا كبيرًا بتشجيع من نابليون نفسه، ونشرت نتائجه في كتاب ضخم طبع تلك الحقبة التاريخية، وهو موسوعة "وصف مصر" الذي يوثق اكتشافات لا حصر لها بين عامي 1798 و1801.
"كل هذا العمل غير المسبوق، حتى من وجهة نظر إثنولوجية واجتماعية، أرسى أسس علم المصريات وترك بصمة في تاريخ العلم"، يقول روبرت سوليه مشددا، قبل أن يتابع: "حتى إن علماء بونابرت كشفوا عن مصر للعالم ولنفسها، لأن المصريين في ذلك الوقت لم يكونوا مهتمين بماضيهم الفرعوني، بل ورفضوا ذلك الماضي باعتباره حضارة وثنية".
هذا النهج الثقافي والعلمي، الذي أحيا الهوس بمصر بجميع أشكاله وأطلق شغف الفرنسيين بهذا البلد، هو جزء من روح عصر التنوير كما يوضح مؤلف كتاب "المغامرة الكبرى في علم المصريات" (إصدار بيران، 2019). "جاءت هذه الحملة في أعقاب الثورة الفرنسية التي اقتنعت آنذاك بوجوب نشر الحضارة في العالم. وبما أن مصر كانت أصل الحضارة، كما كان شائعا في ذلك العهد، فقد كان الأمر يتعلق أكثر بإعادة الحضارة إلى مهدها". ثم يضيف "بهذه الروح وهذه الفكرة، على أي حال رسميًا، فإن نابليون بونابرت الذي كان يدعي أنه معجب بالإسلام ولم يأت بروح الحملات الصليبية، قام بغزو مصر".
"قنبلة موقوتة"
كانت تلك الحملة أول صدام بين الغرب والشرق المسلم منذ الحروب الصليبية. ويؤكد روبرت سوليه "أن المصريين لم يفهموا إطلاقا آنذاك ما يفعله هؤلاء الفرنسيون في وطنهم، في هذه المقاطعة التابعة للإمبراطورية العثمانية، خاصة وأن هذا اللقاء الفرنسي المصري الأول كان متميزا بالعنف، لأنه وقبل كل شيء كان استعماريا وعملية احتلال عسكري".
وردا على سؤال حول تصور المصريين اليوم لحملة نابليون، يقول الكاتب الفرنسي المصري موضحا أنه حتى الخمسينيات من القرن الماضي، عندما كانت مصر لا تزال ملكية، "كان من المقبول" فكرة أن الفرنسيين مع بونابرت "جلبوا الحداثة"، أكثر من كونهم أتوا في حملة قلبت تاريخ البلاد رأسا على عقب.
فمن وجهة نظر سوليه أن "هذه الحملة، عند دراستها بشكل موضوعي، قد مثلت قنبلة موقوتة، لأنها وإن لم تجلب آنذاك الكثير للمصريين، فإنها سببت نوعا من القطيعة مع ما سبقها في تاريخ هذا البلد الذي كان مغيبا منذ قرون. حتى لو لم يكن يجب الإشادة بشخصية نابليون كثيرًا جراء ما استعمله من العنف في هذه الحملة، فإن مصر الحديثة تبدأ دون جدال ببونابرت وحملته الشهيرة، بمعنى أنه كان لها تأثير سياسي مهم من خلال تدمير النظام السياسي للمماليك وتمهيد الطريق لمحمد علي مؤسس الدولة الحديثة".
ويتابع روبرت سوليه بالقول: "اعتبارا منذ عام 1952 وثورة يوليو التي أتت بجمال عبد الناصر إلى السلطة، وُصفت هذه الحملة بالاحتلال الأجنبي الذي أدى دورا كبيرا وأساسيا في إيقاظ القومية المصرية". ومنذ ذاك تم تجاهل الحملة الفرنسية إلى حد بعيد، ولا تزال إلى اليوم معروفة بشكل سيء للغاية ولا تولى لها العناية الكافية في مناهج التدريس في مصر".
وأخيرًا وليس آخرا، إذا كانت هذه الحملة قد غيرت قواعد اللعبة في مصر، سيكون لها أيضًا تأثير على مصير الإمبراطور "قاهر الأهرامات".
يضيف روبرت سوليه "وخلاصة القول، يمكننا القول إن بونابرت هو من غادر إلى مصر عام 1798، لكن نابليون هو من عاد لا حقا إلى فرنسا لتولي السلطة، بعد أن اكتسب الخبرة كحاكم دولة، من خلال إدارته لكل من جيش الشرق ولبلد بحجم مصر". فهو لم يكن يبدو مستعدًا بعد للاستيلاء على السلطة واعتلاء سدة الحكم في فرنسا كما شجعه البعض في عام 1798، مع إنه كان الجنرال الأكثر شعبية في البلاد. "فقد كان من السابق لأوانه لنابليون مهاجمة حكومة المديرين {مجلس رئاسي حكم فرنسا بين عامي 1795-1799 - المحرر}، فهو يعرف ذلك ويشعر به، وكان مقتنعًا قبل كل شيء أنه كان من الضروري الذَّهاب إلى الشرق، الذي جذب إلى حد بعيد هذا الجنرال الشاب المفتون بالإسكندر الأكبر، ولأنه كان يرى كما يقول روبرت سوليه، إنه في هذه المنطقة من العالم يمكننا تحقيق طموحاتنا الرائعة".
وختاما: "لقد كان نابليون محقًا في تفكيره هذا، إذ توج بالمجد بعد هذه التجربة المصرية وأصبح القنصل الأول لفرنسا ثم الإمبراطور".
فرانس 24