خفت الحديث خلال السنوات العشر الماضية عن القضية الفلسطينية في ظل صعود قضايا إقليمية أخرى على سطح المشهد مثل المِلَفّ النووي الإيراني وموجة الثورات العربية والحرب الأهلية في سوريا، وبدا أن القضية الفلسطينية قد حكم عليها بأن تظل محصورة في خلفية الأولويات والأجندات الدولية. ولا سيما بعد توقيع اتفاقيات سلام العام الماضي بين إسرائيل وبعض الدول العربية، مثل الإمارات العربية المتحدة، التي فتحت حِقْبَة جديدة في المنطقة.
لكن الجولة الجديدة من العنف بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس الفلسطينية، على خلفية التوترات في مدينة القدس الشرقية المحتلة، وضع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرة أخرى في قلب الاهتمام الإعلامي والدبلوماسي.
وانطلقت العديد من مسيرات دعم الشعب الفلسطيني التي دعت لها منظمات وجمعيات مختلفة ونظمت نهاية الأسبوع الماضي في عدة دول غربية: وخرج فيها آلاف الأشخاص الذين رفعوا شعارات تطالب بالاعتراف بحقوق الفلسطينيين وشجبوا القصف الإسرائيلي على غزة.
وهتف المتظاهرون في عدد من هذه المظاهرات بشعار "حياة الفلسطينيين مهمة"، في إشارة إلى الحركة الأمريكية المناهضة للعنصرية "حياة السود مهمة"، إضافة لشعار "أنقذوا حي الشيخ جراح" الذي يشير إلى التهديد بطرد العائلات الفلسطينية في هذا الحي من القدس الشرقية، وهو ما كان المصدر الرئيس لاندلاع العنف.
قضية تحرر وتحرير
إضافة للمظاهرات التضامنية، فإن القضية الفلسطينية، التي كانت قد تضررت جراء سياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة برئاسة بنيامين نتانياهو المتحالفة مع أحزاب اليمين المتطرف والتي باتت رهينة صواريخ حركة حماس الموالية لإيران، إضافة للانقسامات الداخلية بين الفلسطينيين أنفسهم واستغلالها من قبل القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا، ها نحن نراها وقد عادت إليها الروح مجددا؛ بفتح النقاش حول الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والاستيطان في الضفة الغربية.
وهو ما نراه جليا لا سيما في الولايات المتحدة، حيث يواجه الرئيس جو بايدن انتقادات من الجناح التقدمي في الحزب الديمقراطي الذي يطالبه بمراجعة سياسة الدعم التقليدية من واشنطن إلى الدولة العبرية ومراعاة حقوق الفلسطينيين.
يقول زياد ماجد، الأستاذ في الجامعة الأمريكية في باريس والمتخصص في شؤون الشرق الأوسط، في مقابلة مع فرانس24 "إن القضية الفلسطينية، على خلاف ما اعتقده البعض من أنها دفنت بالفعل، تبعث من جديد. فهي في الواقع كانت تمر بفترة تحول ثقافي وسياسي، بفضل جيل جديد من الفلسطينيين المقيمين على وجه الخصوص في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوروبا، وكذلك من هم في الأراضي الفلسطينية. وهو الجيل الذي يتفهم بالتأكيد بشكل متزايد أهمية ربط هذه القضية بقضايا النضال الأخرى في جميع أنحاء العالم ولا سيما قضية الأمريكيين من أصل أفريقي الذين يدعون إلى حقوق متساوية في الولايات المتحدة في إطار حركة ’حياة السود مهمة‘".
وبرأي الأستاذ ماجد، فإن هذه المقاربة أعادت تعريف القضية الفلسطينية بوصفها قضية تحرير وتحرر لا تختلف عن قضايا النضال ضد العنصرية وضد الاستعمار. "وهي استراتيجية منفتحة على العالم تضفي عليها بعدًا عالميا وإنسانيا يسمح لها بالابتعاد عن الاعتبارات الإقليمية، أو الدينية والسياسية التي لا تنفك تذكرها وسائل الإعلام والخطب التي تختزل المعادلة الفلسطينية في صواريخ حماس أو حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها" كما يؤكد زياد ماجد.
خطاب يلمس جراح "المظلومين" في كل مكان
ويشير زياد ماجد أيضًا إلى ما نلمسه في وسائل الإعلام الغربية من وجود قدر معين من المساحة المعطاة للفلسطينيين للتعبير عن أنفسهم على أرض الواقع أكثر بكثير من ذي قبل. يضيف قائلًا: "فنحن نرى أيضًا، سواء في الرأي العام أم على شبكات التواصل الاجتماعي والشبكات الأكاديمية، حشدًا متزايدًا لمصلحة الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، ولا سيما الحضور المتزايد لمفردات اللغة القانونية التي تستحضر القانون الدولي وقضايا حقوق الإنسان المعتمد بخاصة على التقارير التي أعدتها منظمات غير حكومية ذات مصداقية لا يرقى إليها الشك، وأحيانًا من قبل منظمات إسرائيلية أو فلسطينية تعمل هناك".
هذا التحول الذي يركز الانتباه "على كرامة الإنسان، وعلى الصعوبات التي يواجهها الفلسطينيون في حياتهم اليومية في ظل الاحتلال ومصادرة الأراضي التي تقوم بها سلطة تفتخر بكونها ديمقراطية، وعلى الحواجز العسكرية والعنف الذي يرتكبه المستوطنون الإسرائيليون". كل ذلك أضفى بعضًا من الشرعية على الخطاب الفلسطيني وجعله سهل المنال وذا مغزى لمن يعتبرون أنفسهم مضطهدين".
ويتابع بالقول إن "القضية الفلسطينية قد تتحول إلى موضوع لنقاشٍ حقيقيٍ في الولايات المتحدة. فبالنظر إلى أن هذا البلد هو الحليف الأول لإسرائيل، فمن الطبيعي أن تجري المعركة هناك، كما بات من الطبيعي بالنسبة للأعضاء التقدميين في الحزب الديمقراطي والمثقفين المرتبطين به، وكذلك لبعض النشطاء الأمريكيين من أجل الحقوق المدنية وتحرير الأمريكيين من أصل أفريقي، أن يكون هناك صلات وتآزر مع القضية الفلسطينية والتنديد بإسرائيل، كما تفعل النائبة عن نيويورك ألكسندريا أوكاسيو كورتيز، بوصفها دولة فصل عنصري".
خلاصة القول: "يأتي العنف الحالي لتذكير من نسوا أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام في المنطقة دون استعادة حقوق الفلسطينيين واحترامها، وأنه من حي الشيخ جراح في القدس إلى غزة وحيفا والضفة الغربية وعمان وباريس ولندن وحتى واشنطن، لا تزال القضية الفلسطينية حية لم تمت".
فرانس 24