مَعًا لمكافحة الجريمة والحدّ من أسبابها

 إسلمو ولد سيدي أحمد

بتاريخ 25 نوفمبر 2015م نشرتُ مقالا،  بعنوان: "حارِبُوا الشرَّ ولا تحارِبُوا الشِّرِّيرَ:"

جاء فيه:

"الشَّرُّ: السُّوءُ والفَسادُ. والشِّرِّيرُ: الكثِيرُ الشَّرِّ. وتعني هذه المقولة "حاربوا الشر ولا تحاربوا الشرير"-مِن بين ما تعنيه-أننا إذا حاربنا الشَّرَّ قضينا عليه، وإذا حاربنا الأشرارَ فقد نصبح أشرارًا مثلهم. وهذه المقولة التي تكاد تكون مطَّردة، يمكن تطبيقها على بعض القضايا الشائكة التي نشهدها اليومَ في واقعنا المَعِيش". 

لقد كثُر الحديث في الوقت الراهن، عن ظاهرة تزايد الجرائم في الوسط الحضري الموريتاني، وتناولتها بعض وسائل الإعلام (وبخاصة وسائل التواصل الاجتماعي) بطريقة أحدثت رُعْبًا شديدا لدى بعض المواطنين العزّل المسالمين.

أحاول في هذا المقال، أن أربط بين مكافحة الجريمة، وبين محاربة الشِّرِّيرِ، وصُولًا إلى أنّ مكافحة المجرم، مطلوبة ومفهومة، بشرط أن يكون التركيز على اجتثاث أسباب الجريمة من جذورها.

جاء في المقال المشار إليه، بخصوص مكافحة الإرهاب (والإرهاب رديف الجريمة، إذْ هما وجهان لعملة واحدة)، ما يأتي:

"للقضاء على الإرهاب، ينبغي أن نحاربَ ظاهرة الإرهاب، بدلًا من التركيز على محاربة الإرهابيين، وذلك بالقضاء على الظاهرة من خلال تجفيف منابعها واجتثاث جذورها، إذْ إننا عندما نحارب الإرهابيين نصبح إرهابين مثلهم وبذلك تتسع دائرة الإرهاب. وتكمن الخطورة هنا في أنّ الإرهاب لم يعد يقتصر-في هذه الحالة-على الأفراد والجماعات،  بعد أن دخلت الدول "الإرهابية" على الخطّ. ولا شك في أنّ "إرهاب" الدولة-بما تمتلكه من جيوش نظامية مدجّجَة بالأسلحة المتطورة-سيكون أشدّ فتكًا من إرهاب الأفراد والجماعات. وهذا ما يشهده العالم في الوقت الراهن، وهو أمر مؤسف. لقد أصبحنا نعيش في عالَم من "الإرهابيين" من كل صنف ونوع (من أفراد وجماعات ودول). والنتيجة واحدة: قتْل وتشريد ودمار وحروب مشتعلة في أنحاء المعمورة".

وفي فِقرة أخرى، من المقال المذكور، ارتأيت أنْ أسقط هذه القضية على موضوع الفساد والمفسدين. وذلك على النحو الآتي:

 "للقضاء على الفساد، ينبغي كذلك أن نحاربَ الفسادَ بدلًا من التركيز على محاربة المفسِدين. ويكون ذلك باتخاذ الإجراءات اللازمة-من قوانين وغيرها-لجعل الفساد-بأنواعه المختلفة-غير ممكن؛ بحيث نجعل المفسدين في وضع لا يتيح لهم الاستمرار في الفساد. وعندما يتوقف الفساد، فمعنى ذلك أننا حاربنا المفسدين بطريقة غير مباشرة، وأتحنا لهم فرصة التوبة ليصبحوا مواطنين صالحين. مع أننا لو حاربنا المفسدين بطريقة مباشرة وأبعدناهم عن الشأن العام، دون تجفيف منابع الفساد، سيأتي مفسدون آخرون ويستغلون المُناخ الملائم للفساد. وبذلك نظل في حلقة مفرغة: نحارب مفسدين ونرمي بهم خارج الميدان، ويأتي مفسدون-ربما أكثر حُنْكَة في الفساد-يحلّون محلَّ المفسدين السابقين، ويكونون أفسدَ خلَف لأفسدِ سلَف".

وورد في المقال الآنف الذكر، بخصوص ما نتحدث عنه اليوم (أيْ الجريمة):

 "لمحاربة الإجرام، فلا يجوز كذلك أن نخرج عن القاعدة السابقة التي تقضي بأن نحارب أسباب الإجرام ، بدلا من التركيز على محاربة المجرمين. ومن المعلوم أنّ محاربة المجرمين تتجسّد-بصفة عامة-في القبض عليهم ومحاكمتهم والزجّ بهم في السجون لينالوا جزاء إجرامهم، لكن ذلك لن يجديَ نفعا إذا لم نعمل من أجل القضاء على أسباب الإجرام؛ ومن الملاحظ أنّ المجرمين بعد انتهاء الفترات التي يقضونها في السجون، يتخرّجون في المؤسسات السجنية وقد اكتسبوا خبرات جديدة في مجال الإجرام بفضل احتكاكهم وتعايشهم مع مجرمين كبار. والنتيجة هي أنهم يعودون إلى ممارسة إجرام من نوع جديد. وهنا كذلك نعود إلى الحلقة المفرغة، بحيث نسجنهم من جديد ونصل عاجلًا أو آجلًا إلى النتيجة نفسِها. والسبب في ذلك هو أننا حاربْنا المجرمين وبقيت أسباب انتشار الإجرام كما كانت.

وجاء في ختام ذلك المقال، المنشور قبل ست سنوات من تاريخ اليوم (وما أشبه الليلة بالبارحة !):

 "ونختم بإسقاط المَقولَة التي اخترناها عنوانًا لهذه الخواطر، على موضوع معالجة الانقلابات العسكرية التي أصبحت حجر عثرة في طريق النمو، وجعلتنا في وضع شاذ-لا نحسد عليه- بالنسبة إلى العالم الديمقراطيّ المتحضّر. ولعل الأمثلة السابقة تغنينا عن التوسع في هذه القضية. ومع ذلك فلا بد من الإشارة إلى أنّ المطلوب هو محاربة أسباب الانقلابات، بدلا من محاربة "الانقلابيين" من خلال الانقلاب عليهم. ومن الواضح أننا عندما ننقلب على الانقلابيين سنصبح انقلابيين مثلهم، وسيأتي حتمًا آخَرون لينقلبوا علينا وندخل في الدوامة نفسِها.

ولعلّ الأمثلة المشار إليها، تؤكّد أنّ الحكمة تقتضي أن نركز على محاربة الأسباب أكثر-على الأقل-من تركيزنا على محاربة النتائج".

ولا يخفى على أحد أنّ  ظاهرة تزايد الجريمة، ظاهرة عالمية بامتياز. وعلينا أن نحمد الله على ما نحن فيه من أمن، وإن كنا نطمح إلى المزيد من الأمن والطُّمأنينة؛ وهو طموح مشروع ومفهوم، ولا يعني هذا- من وجهة نظري- التقليل من الجهود المحمودة التي تبذلها السلطات المختصة من أجل تحقيق الأمن للوطن والمواطن.

وعلى كل حال، فإنّ الحديث عن الجريمة، "حديث ذو شجون"، كما يقال؛ أيْ ذو فنون وشُعَب تَتَدَاعَى يتصل بعضها ببعض. ودون الخوض في موضوع تعريف الجريمة، أشير إلى أنّ أنواع الجرائم كثيرة، منها على سبيل المثال: جرائم الانتقام، الجرائم الاقتصادية، الجرائم الاجتماعية، جرائم ضد الأشخاص، جرائم ضد الممتلكات، جرائم ضد الآداب، الجرائم السياسية… والقائمة طويلة.

 وعند الحديث عن أسباب الجرائم، فلا بد من التذكير-حسَب ما يراه بعض المتخصصين في المجال- بارتباط الجريمة بضعف الوازع الديني والأخلاقي، وبالوسط الاجتماعي الفاسد، وبالظروف الاقتصادية الصعبة، وبالبطالة، وبتعاطي المُسْكِرات (بأنواعها) والمخدرات وحبوب الهلوسة ومختلف المؤثرات العقلية. كما أنّ للجرائم ارتباطا وثيقا-كما يرى بعضهم- بعدم التشديد في العقوبة على المجرمين لردعهم، وبالتراخي في الإجراءات الاستباقية التي من شأنها أن تكتشف المجرم قبل أن ينفذ جريمته (أي في مرحلة التحضير المادي لتنفيذ الجريمة).

ولا يفوتني، في هذا المجال، أن أشدّدَ على أهمية التنسيق المحكم والتعاون التام بين المواطنين والسلطات الأمنية، من أجل الحد من  أخطار هذه الظاهرة العالمية التي تقض مضاجع الدول القوية، وتحصد الأرواح وتنهب الممتلكات في كل وقت وحين، وفي كل بقاع المعمورة؛ فلا استقرارَ، ولا طُمأنينة، ولا تنمية، ولا رخاء، دون تحقيق الأمن. ولن يتأتى ذلك، دون القيام بعمل جماعي نشارك فيه جميعا (كل من موقعه) للتصدي لهذه الظاهرة الخطيرة؛ فاليدُ الواحدة لا تصفق.

أقترح في الختام، على السلطات العليا في بلدنا الحبيب، التركيز على القيام بإجراءاتٍ عمليةٍ من شأنها أن تخفف من تفاقم الظاهرة، وصولًا إلى تجفيف منابعها؛ وهو أمر تدركه جيدا السلطات المحترمة. وليست الإجراءات المقترحة، إلّا من باب التذكير وتبادل الآراء.

 من هذه الإجراءات، ما يأتي:

النهوض بالمؤسسات والهيئات والأطراف التربوية وتفعيلها (مع خلق عَلاقة صحية بين المدرسة والأسرة)، لتقوم بدورها في غرس القيم والأخلاق لدى النشء. القيام بحملات توعية مكثفة ومستمرة لتقوية الوازع الديني والأخلاقي لدى أفراد المجتمع؛ فالإنسان ابن بيئته (يتأثر سلبا أو إيجابا بمَن/ وبمَا حوله). الاستمرار في الجهود المبذولة لتحسين الأوضاع الاقتصادية، والحد من البطالة (فالفراغ مَفسَدة). تكثيف الحملات الخاصة بمحاربة الجريمة المنظمة، ومنع تعاطي المخدرات والاتجار فيها، وحظر حمل السلاح من غير ترخيص (بما في ذلك "السلاح الأبيض" المستخدم في معظم الاعتداءات الأخيرة على المواطنين الأبرياء المسالمين). دعم السلطات المختصة (الأمنية والقضائية والهيئات المتعاونة معها)، ماديا ومعنويا، حتى تتمكن من التصدي لهذه الظاهرة الخطيرة.

 حفظ الله بلادنا من كل مكروه، ورفع عنا البلاء والوباء. إنه وليّ ذلك والقادر عليه.

أربعاء, 09/06/2021 - 10:07