التحكّم بأموال المقاصّة وبروتوكول باريس

سنية الحسيني

استأنفت إسرائيل يوم الأحد الماضي استقطاع نسبة من أموال المقاصة، تعادل المخصصات المالية التي تدفعها السلطة الفلسطينية للأسرى وأسر الشهداء، بعد تراجعها عن ذلك الإجراء خلال الأشهر القليلة الماضية. ويبدو أن دولة الاحتلال قد جمدت تنفيذ هذا القرار مطلع هذا العام  كبادرة حسن نوايا قدمتها للإدارة الأمريكية الجديدة بشكل مؤقت. إن قرار إسرائيل باستقطاع هذه الأموال يأتي في إطار سياسة مبرمجة، تهدف في الأساس إلى تجريم العمل النضالي الفلسطيني وشيطنته، وليس مجرد إجراء عابر تنوي التراجع عنه مستقبلاً. كما أن سياسة حكومة الاحتلال بإجراء استقطاعات مالية محددة أو حتى تجميد إرسال أموال المقاصة كاملة للسلطة، وهي التي تشكل ثلثي مواردها، ما هي الا تنفيذ لإستراتيجية وضعتها بعد توقيع إتفاق أوسلو عام ١٩٩٣، وتجسدت من خلال بروتوكول باريس الاقتصادي الذي تم التوقيع عليه في أيار عام ١٩٩٤. يضع بروتوكول باريس قواعد تسمح لإسرائيل بمساومة السلطة مالياً، لتحقيق أغراض سياسية، ناهيك عن ضمانه تبعية إقتصادية للاحتلال.
لم تتوقف إسرائيل طوال العقود الثلاثة الماضية عن إستخدام إستراتيجية حجب الأموال المستحقة للسلطة للضغط عليها سياسياً. وبدأت سلطات الاحتلال بتنفيذ هذه الاستراتيجية عملياً عام ٢٠٠٠ عندما منعت وصول أموال المقاصة إلى السلطة لعامين متتاليين بعد انفجار إنتفاضة الأقصى، عانت خلالهم السلطة أزمة مالية خانقة. لحق ذلك الإجراء العديد من الإجراءات المشابهة،  منها ما جاء بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام ٢٠٠٦، حيث استمر حجز أموال السلطة أكثر من ١٦ شهراً، ومنها ما جاء لفترات زمنية أقل، كحجبها لأموال المقاصة بعد سعي الفلسطينيين لنيل اعتراف دبلوماسي من اليونسكو عام ٢٠١١، وبعد نجاحهم بالحصول على صفة دولة غير عضو في الأمم المتحدة عام ٢٠١٢، وبعد سعيهم للانضمام للمحكمة الجنائية الدولية عام ٢٠١٤. ومن الملاحظ أن الاحتلال استخدمت هذه الإستراتيجية للضغط على الفلسطينيين لأسباب سياسية، تراجع عنها بعد حين، إما لأنها حققت غرضها أو لأنها جاءت بهدف العقاب لفترة معينة.
ولم يخرج إجراء خصم إسرائيل لمستحقات الأسرى وأسر الشهداء من أموال المقاصة، عن تلك الإستراتيجية سابقة الذكر. وطالما اقتطع الاحتلال نسب مختلفة من أموال المقاصة لأسباب إقتصادية، لتغطية فواتير مستحقة عليها، دون العودة للسلطة أو التفاوض معها حولها. إلا أن الجديد في خصم إسرائيل لمستحقات الأسرى وأسر الشهداء هو أنه جاء لتحقيق هدف سياسي، ويحمل صفة الدوام أو الاستمرار، بعد أن سن الكنيست قانون أطلق عليه “مكافحة الإرهاب” عام ٢٠١٩ يفرض على الحكومة الإسرائيلية اقتطاع كل ما تدفعه السلطة للأسرى وأسر الشهداء من أموال المقاصة. إن قضية وصم المناضلين الفلسطينيين ب “الإرهاب” قضية سياسية شديدة الحساسية لدى الفلسطينيين وتشكل خطاً أحمر لديهم، خصوصاً وأنه ليس هناك بيت فلسطيني واحد يخلو من أسير أو أسير محرر أو شهيد، ناهيك عن أن الاحتلال لايزال يجثم فوق صدور الفلسطينيين، وتعج سجونه بالأسرى الفلسطينيين.
على الجانب الأخر، تهتم إسرائيل بشكل خاص بتجريم العمل النضالي الفلسطيني، وتعتبر قضية ردع المناضلين والقضاء على النضال الفلسطيني قضية أساسية في صراعها الأزلي مع الفلسطينيين. وقد استغلت إسرائيل تبعات أحداث الحادي عشر من سيبتمبر وحرب الولايات المتحدة على الإرهاب لتزج بالنضال الفلسطيني في إطاره، فكثفت إسرائيل من جرائم إغتيالها للمناضلين الفلسطينيين مطلع الألفية الجديدة، وسعت لشيطنة المقاومة الفلسطينية دولياً. كما رفع إسرائيليون من حملة الجنسية الأمريكية دعاوي في محاكم أمريكية  ضد الفلسطينيين عام ٢٠٠٤ بحجة قتل أبنائهم في عمليات فدائية، إفتتحت عملية محاسبة ومطاردة مالية لرموز النضال الفلسطيني، ومن هنا بدأت مساعي إسرائيل بمطاردة المناضلين داخل فلسطين المحتلة مالياً لكسر شوكتهم، وتجسدت باصدارها قانون الكنيست سابق الذكر. والمشكلة أن إسرائيل تتناسى وتريد للعالم أن ينسى أن ما تمارسه في فلسطين ما هو الا جريمة إحتلال طال، وقضية النضال الفلسطيني ما هي الا رد فعل طبيعي على ذلك الاحتلال.
إن قضية تحكم إسرائيل بأموال الفلسطينيين المستحقة نص عليها بروتوكول باريس الاقتصادي الملحق باتفاقية أوسلو، حيث افترض البروتوكول سيطرة إسرائيل على الحدود وبالتالي تحكمها بمعابره الحدودية. نص البروتوكول في البند السادس منه على قيام السلطات الإسرائيلية بجباية ضريبة القيمة المضافة وضرائب المشتريات على الإنتاج المحلي، إضافة إلى ضرائب أخرى غير مباشرة عن السلطة، وتحويلها لها مقابل ٣٪؜ بدلاً عن هذه الخدمة.  وعليه تتحكم إسرائيل بتلك الأموال وتساوم السلطة عليها كما ورد أعلاه. كما تتحكم أيضاً بناء على نصوص البروتوكول، بأموال الضرائب ومقتطعات التقاعد من العمال الفلسطينيين الذين يعملون في إسرائيل والمستوطنات، وتتحكم أيضاً بأموال الضرائب في المناطق الفلسطينية المصنفة (C)، والتي تمتنع إسرائيل عن ارسالها للفلسطينيين. إن إسرائيل تتحكم بجل موارد السلطة الاقتصادية، وتستخدم الاتفاقيات التي وقعتها معها من جهة وقدرتها كقوة إحتلال لتنفيذ سياساتها في الأراضي المحتلة من جهة أخرى لترويض الفلسطينيين وإخضاعهم.
لم يتحكم بروتوكول باريس بموارد السلطة المالية فقط، بل رسم حدود تطورها الاقتصادي عموماً. آثرت إسرائيل من خلال البروتوكول بعد توقيع إتفاق أوسلو الحفاظ على النظام الاقتصادي الذي حكم علاقتها بالأراضي الفلسطينية منذ أن احتلتها عام ١٩٦٧. واعتمدت إسرائيل منذ احتلالها نظاما يعرف ب “الاتحاد الجمركي” في تعاملها مع الأراضي المحتلة، سمح لإسرائيل باستغلال مواردها وعمالتها الرخيصة لتنمية اقتصادها الصناعي، ورسخته قانونياً من خلال بروتوكول باريس. ويضمن نظام الاتحاد الجمركي لإسرائيل بعد توقيع الإتفاق غياب الحدود الاقتصادية وتوحيد السياسة التجارية الخارجية بينها وبين السلطة وهو الأمر الذي يحد من الممارسة السيادية للسلطة على قرارها الاقتصادي. يأتي ذلك في ظل التباين الكبير في المستوى الاقتصادي بين البلدين، وسيطرة إسرائيل على المعابر الحدودية، وسيطرتها الفعلية داخل الأراضي الفلسطينية وبين مدنها وقراها، ناهيك عن بعض الشروط أيضاً التي وضعها البروتوكول والتي تمكنها من التحكم عموماً بالاقتصاد الفلسطيني بشكل مباشر مثل البند الخاص بإمكانية زيادة نسبة الضرائب المفروضة على البضائع المستوردة بشكل فردي، وامكانيتها حظر دخول العمال الفلسطينيين داخل الخط الأخضر. كما يتحكم البروتوكول بنوع وكمية المواد التي يمكن للسلطة استيرادها وتصديرها، والذي يرتبط بشكل جلي بالمعادلات الاقتصادية في إسرائيل. وتتضح الصورة بجلاء عندما نعرف أن الاحتلال يستقبل ٨٥٪؜ من الصادرات الفلسطينية  ويرسل للفلسطينيين ٧٠٪؜ من مجمل وارداتهم.
يأتي استقطاع إسرائيل لما يعادل مخصصات الأسرى وأسر الشهداء من أموال المقاصة هذه المرة في ظل التبعات السلبية لجائحة كورونا إقتصادياً، وتراجع حجم المساعدات الخارجية عموماً،  وتزايد عجز السلطة المالي، ناهيك عن التعاطف الأمريكي والأوروبي لموقف إسرائيل، الأمر الذي لا يرجح تراجع إسرائيل عن ذلك القرار هذه المرة، بل قد يكون مقدمة لمزيد من الضغوط فيما يتعلق بقضية المناضلين الفلسطينيين. لن يستطيع الفلسطينيون امتلاك قرارهم السياسي والاقتصادي الا بالسيطرة الكاملة على أرضهم ومعابرهم وحدودهم. وليس أمام الفلسطينيين الا التوحد والمصالحة والعمل تحت مظلة واحدة لمواجهة الاحتلال ومخططاته التي لن تتوقف أبداً عن تقويض مكانتهم ووجودهم.

نقلا عن رأي اليوم 

خميس, 15/07/2021 - 12:30