قبل قرن وتسع سنوات أطلق الكاتب الألماني فالديمار بانسلس قصة «النحلة مايا» التي حققت نجاحا كبيرا، يستمر منذ تلك الأيام إلى يومنا هذا. دخلت هذه القصّة عالم الطفولة العربية تحت عنوان «زينة ونحّول» من خلال مسلسل «أنمي» عرض أواخر السبعينيات على جميع التلفزيونات العربية بدون استثناء.
أما محتوى القصة فيقوم على مغامرات النحلة (مايا ـ زينة) بعد هروبها من خلية النّحل العائلية لاكتشاف العالم. وهي نفسها قصّة الكاتب الذي هرب من البيت ومن ثانوية مدينة كيل الساحلية ومن محيطه البورجوازي، في عمر السابعة عشرة، منطلقا لاكتشاف عالم الطبيعة والعالم الفسيح خارج الحدود الألمانية.
القصة التي تنال اهتماما متزايدا في الغرب، لأسباب بيئية، تقوم كل عام بإضافة بند جديد لقراءتها، حتى تحولت إلى ما يشبه الأسطورة التي تعالج العلاقة بين الإنسان والحيوان، وفق المعاملة الأخلاقية، واعتبارها نصّا سابقا لزمانه انتقد بشدّة المركزية البشرية، وناشد بحماية سحر الطبيعة.
صدرت قصة «النحلة مايا» قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وإن سألنا ما الذريعة المنطقية لاندلاعها، فلن نجد سببا معقولا، «سوى ذلك الإفراط في القوة، كنتيجة مأساوية لديناميكية داخلية تراكمت خلال أربعين عاما من السلام، أرادت التّخلّص منها بعنف»، كما قال الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ في سيرته «مذكّرات أوروبي» هو الذي كان شاهدا على ازدهار أوروبا، وتباهيها بكل ما حققته، ثم انزلاقها في حرب تدميرية لا معنى لها.
رؤية الكاتب الألماني للأمور آنذاك، تجاوزت المعقول، وقيل إن قصصه انعكاس لأسفاره حول العالم، وهي التي جعلتها تحقق نجاحا باهرا. فقد بلغ الهند وتعرّف على المجتمع الهندي المتعدد، خاصة فلسفة البوذيين، وزار مصر، ثم أبحر إلى أمريكا، لذا تجانست مغامرة نحلته الشهيرة مع انفتاحه على الثقافات.
القصّة التي طبعت طفولتنا ولم تنل اهتماما من النقاد عندنا، كان لها تاريخ آخر في أوروبا التي شهدت الانتكاسة الأخلاقية حتى بلغت ذروتها، ثم عاودت النهوض بترميم روحها من جديد مع تصحيح جادّ لأسباب الانزلاق الكبير في حربين. أمّا البحث في قصص مثل هذه لإيجاد ما يثري محاسن الأخلاق في الأجيال المتمدرسة، فقد كان أفضل نهج سلكته المنظومات التربوية والأكاديمية لتحقيق قراءة جديدة للنصوص الأدبية، التي تعتبر اللبنة الأساسية للحفاظ على اللغة وتطويرها وفتح سجال فكري مثمر.
في أحد الشروحات العميقة ترد هذه الجملة مرافقة لقراءة من قراءات قصة «النحلة مايا»: «أوكي لقد أصبحت لدينا شوارع واسعة، وجميلة، وواجهات فخمة، ونساء جميلات يرفلن بأثوابهن الأنيقة بينها، ومسارح، وموسيقى، وحفلات صاخبة، لكن أين الإنسان من هذا الكون؟ أين مكانه الحقيقي؟ وما قيمته الوجودية منذ لحظة ولادته إلى لحظة انطفائه؟». طرحت النّحلة مايا أسئلتها الوجودية على نفسها، ولم تقاوم رغبتها في معرفة الحقيقة، أو على الأقلّ اكتشاف سبب منطقي واحد لوجودها في هذا الكون، لهذا انطلقت في مغامرتها. ربما كانت رغبة بانسلس تفوق براعته في المشي في الطبيعة، ربما روادته أحلام التحليق ورؤية العالم من فوق، لكن الأكيد أنّه انحنى طويلا ليرى ما تخبئه الأرض من أسرار غريبة، فتأمّل حشراتها وزواحفها وكائناتها الغريبة دون كلل أو ملل، بل يبدو جليا أنه صاحبها، وخاطبها، خلال رحلاته تلك. يبدو أيضا أن رحلته إلى الهند هي أكثر رحلة حرّرت فكره من سجن المعطيات الجاهزة، حين انصهر جسده ليتحوّل إلى واحد من مكوّنات الطبيعة، عكس ما كان يُعتقد به آنذاك على أن الطبيعة خُلقت ليسيطر عليها الإنسان ويستفيد منها، ما دام الكائن الوحيد العاقل في الدنيا.
الحيوانات النّاطقة في القصص، والأفلام، تجد مكانتها في قلوب الأطفال. وعادة ما يكوّن الطفل صداقة مع شخصيته الحيوانية المفضلة، وهذا يعني أن الطفل مجهّز بشكل ما ليفرّق بين ما هو واقعي وما هو خيالي.
حتى في قراءته للنتائج الكارثية للحرب العالمية الأولى، في كتابه «الوداع» أشار إلى أنها مذبحة للإنسان وللحيوان، ولا ندري هل أراد منذ البداية أن يقدّم لنا دروسا أخلاقية حول الطبيعة، كان قد تعلّمها مباشرة من الحيوانات، خلال سفراته؟ أم أن رحلته إلى الهند فتحت عينيه على مفهوم مختلف للحياة، وفرضت عليه إيصال تلك الرسالة؟
بصمة الهند برزت في الاسم «مايا» فهو في الحقيقة مصطلح سنسكريتي في الديانات الهندية، له معان متعدّدة تشير إلى الطبيعة والخلق وقوة الوهم. كما بصمات أخرى، بقيت في ذاكرتنا من قراءاتنا القديمة، نتذكّر منها ما ترجمه عبد الله بن المقفّع في القرن الثامن ميلادي من مجموع قصص «كليلة ودمنة» إلى اللغة العربية، والمنسوبة لأصول هندية، قد لا نتذكرها في مجملها حتما ولكننا نتذكّر بعضها، مع كمٍّ من المعلومات التي تؤكد تأخّر المغامر الألماني في رصد عالم الحيوان واستنطاقه بالحكمة التي تتجلّى في سلوكه. فكما يعرف القاصي والداني أن جان دو لافونتين نهل من «كليلة ودمنة» على أيامه وكتب قصصه عن الحيوانات الناطقة، لكن ما كتب على شكل خرافة اختلف كثيرا عن قصص بانسلس، كونها لا تحدث حسب زمنه السردي في الماضي السّحيق، بل في الزمن الحاضر لكل قارئ، وهو حاضر يشعر به قارئ قرن مضى، وقارئ اليوم. والدليل أن أي شخص من جيلي يمكنه أن يشاهد مسلسل «زينة ونحّول» متى شاء حتى تتداخل عليه الأزمنة، فإما أن ينتابه شعور بأنه أصبح طفلا، أو أن الزمن لم يتزحزح به بعيدا عن طفولته، لكن في كلا الحالتين لن يشعر بأن أحداث القصة «حدثت في سالف العصر والأوان» بل حدثت في زمنه.
المسلسل الذي لم يعد يبهر أجيالنا الجديدة، دخل عالم الألعاب الإلكترونية في الغرب، كما تمّ إنتاجه مرتين على شكل فيلم أنمي (2014 -2018 )، واستثمر في شكل مدينة ألعاب، ولكن الأهم أنّ عشرات النسخ المتجددة من القصة، التي تصاغ لتناسب أعمارا مختلفة تصدر كل عام، وكلها تعتمد تقديم الطبيعة بمكوناتها الحيوانية كشريك لنا في الحياة وليس كديكور يؤثث عالم الإنسان.
إلى هنا يبدو الأمر جيدا، لكن هل يمكن للقصّة أن تصحِّح الأفكار الخاطئة عن الحيوان؟
لنأخذ المثال نفسه الذي انطلقنا منه، هل يمكن لأي طفل أن يهزم خوفه من «النّحلة» في الطبيعة، ويراها كما يرى «النحلة مايا» أو «زينة»؟ ما سجّله علماء النّفس من خلال المواجهات الأولى لأطفال صغار للحشرات والحيوانات محيّر بالفعل، فالخوف منها رد فعل وقائي طبيعي في الغالب، لكن أحيانا تصدمنا ردّات فعل فضولية خالية من الخوف، وغالبا ما يقوم البالغون بتصحيح هذا السلوك الخالي من الخوف، بتنبيه الطفل إلى خطورة الحشرات والزواحف والحيوانات عموما. الحيوانات النّاطقة في القصص، والأفلام، تجد مكانتها في قلوب الأطفال. وعادة ما يكوّن الطفل صداقة مع شخصيته الحيوانية المفضلة، وهذا يعني أن الطفل مجهّز بشكل ما ليفرّق بين ما هو واقعي وما هو خيالي.
بقي أن نربي هذا الطفل على فهم عالم الحيوان، وطريقة التعامل معه، حتى لا نكوّن لديه ردات فعل عدائية تحوّله لكائن متوحش يتصرف بعنف وإقصائية تجاه محيطه الطبيعي. يخاف الطفل بشكل مبالغ فيه من الحيوانات، إذا لاحظ ذلك على أهله، يعنفهم إذا رأى ذلك منهم ومن المقربين منه، يفقد الكثير من فرحه وطمأنينته كلما زادت عدائيته نحو الطبيعة وكائناتها. وهذا ليس كل شيء! طاقته الإبداعية تخف أو تتعطّل حسب هذه العلاقة بينه وبين محيطه الطبيعي الزاخر بالكائنات الحية. ليس صدفة إذن أن يلتقي المبدعون في كل العالم في عدة نقاط مشتركة منها حبهم للطبيعة والحيوانات والقصص نفسها حين كانوا أطفالا.
لكن المبهر حقا في الحكاية كلها، هو أن قصة «النحلة مايا» ليست قصّة للأطفال، بل قصة لكل أفراد العائلة.
القدس العربي