العلاقات الاستراتيجية واللعب على اللغة

يحيى الكبيسي

وقع العراق والولايات المتحدة الأمريكية في العام 2008 اتفاقية الإطار الاستراتيجي والتي تعرف اختصارا (SFA). وتتحدث هذه الاتفاقية عن التعاون في مجالات مختلفة بضمنها التعاون الدفاعي والأمني الذي جاء بأربعة أسطر فقط، والذي لم تتحدد آلياته أو فحواه. وقد نصت الاتفاقية على الآتي: « وفقا للاتفاق بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية العراق بشأن انسحاب قوات الولايات المتحدة من العراق وتنظيم أنشطتها خلال وجودها المؤقت فيه». وهذا يعني انه مع انتهاء اتفاقية وضع القوات، التي تُعرِّفُ اختصارا باتفاقية SOFA، في نهاية كانون الأول/ ديسمبر 2011، لم يعد هناك أي إطار قانوني لأي تعاون عسكري وأمني بين العراق والولايات المتحدة الأمريكية!
بعد تداعيات سيطرة تنظيم الدولة/ داعش على ما يقرب من ثلث الأراضي العراقية، وفي سياق التحالف الدولي ضد الإرهاب الذي أعلن في أيلول/ سبتمبر 2014، عادت الولايات المتحدة الأمريكية لممارسة مهامها القتالية، وخلال ست سنوات من وجودها لم يقدم الجانب العراقي الرسمي أي توضيح للإطار القانوني الذي يحكم القوات الأمريكية في العراق، كما لم يعترض ولم يسأل أحدٌ من «المقاومين وحلفائهم» عن ذلك، وظل هذا الموضوع مسكوتا عنه تماما في سياق تواطؤ جماعي للفاعلين السياسيين في الكتل الشيعية تحديدا!
وقد ظهرت بعض المحاولات «للتبرؤ» من المسؤولية تجاه هذا الموضوع، وقد تبادل رئيسا الوزراء الأسبقان نوري المالكي وحيدر العبادي، فقد حمل المالكي العبادي مسؤولية استقدام هذه القوات، ومنحها قواعد ثابتة على الأراضي العراقية وصلاحية التحرك على الأرض وسماء العراق من دون الرجوع إلى السلطات العراقية! ورد العبادي بقوله إن القوات كانت موجودة قبل رئاسته مجلس الوزراء بشهرين.
الأهم من ذلك كله ان فكرة الحوار العراقي ـ الأمريكي لم تكن فكرة عراقية من الأصل، بل كانت فكرة أمريكية! ففي الذكرى السادسة لسقوط الموصل، اقترح وزير الخارجية الأمريكي السابق في 7 نيسان/ أبريل 2020 إجراء حوار استراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية والعراق، وكان واضحا أن الهاجس الأمني المرتبط بمستقبل الوجود الأمريكي في البلد سيكون محوريا. وحيث إن هذه الدعوة كانت بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي، وقبل اختيار رئيس الوزراء الذي سيعقبه، قال بومبيو ردا عن سؤال عن رئيس مجلس الوزراء المقبل، قال بومبيو: إنه يجب ان يكون مستعدا للانخراط في الإصلاحات، وبناء عراق مستقل يتمتع بالسيادة ويبتعد عن النموذج الطائفي القديم الذي انتهى به المطاف إلى الإرهاب والفساد. ومن الضروري التركيز على العبارة الأخيرة التي وردت هنا، لأنها ستكون غائبة تماما لاحقا في سياق جولات هذا «الحوار»!
أمريكيا لم يعد العراق حاضرا في استراتيجية صانع القرار الأمريكي إلاّ بوصفه دولة فاشلة قابلة للتحول إلى بؤرة للعنف ومصدِّرة للجماعات المتطرفة. ومراجعة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2017 ـ 2021 تكشف أن الشرق الأوسط كله، وليس العراق فقط، لا يحضر في هذه الاستراتيجية إلا من خلال الحرص على عدم تحول هذه المنطقة إلى ملاذ آمن «للإرهابيين» وأن لا تسيطر عليها «قوة معادية» للولايات المتحدة، بالإضافة إلى ضمان لـ«استقرار سوق النفط العالمية».
وتكمن خصوصية العراق هنا في طبيعة علاقته الإشكالية مع إيران، فهذه الاستراتيجية تركز على الخطر الإيراني، والعراق ضمنا بسبب هيمنة الدولة الموازية التي تشكلها الميليشيات، بوصفها أداة إيرانية صريحة في حروبها بالوكالة!
من أجل ذلك كله ركزت الاستراتيجية على ضرورة الإبقاء على الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة من أجل « حماية الولايات المتحدة وحلفائها من الهجمات الإرهابية والحفاظ على توازن إقليمي ملائم بين القوى المختلفة» كما تقول بنود الاستراتيجية.

الطرفان الأمريكي والعراقي قد تعهدا باستمرار تعاونهما في إطار التحالف الدولي ضد الإرهاب وهو تحالف سمح، بالفعل، بتواجد هذه القوات في العراق

ولا أعتقد أن الاستراتيجية الأمريكية القادمة للأمن القومي الأمريكي للأعوام 2021 ـ 2025 ستختلف كثيرا في رؤيتها للمنطقة.
قلنا في مقال سابق إن ثمة انقساما داخليا صريحا بشأن الوجود الأمريكي، فالفاعلون السياسيون الشيعة المحسوبون على إيران، لا يزالون مصرين على الربط بين العلاقات العراقية الأمريكية بملف العلاقات الإيرانية الأمريكية، وأن يكون العراق أداة ضغط إيرانية ضد الولايات المتحدة الأمريكية في هذا السياق، لهذا كنا نقول دائما أنه لا وجود لإرادة سياسية حقيقية لدى هؤلاء، لخروج القوات الأمريكية من العراق، بل هم يستخدمون هذه الدعوة، ومعها سلاح الكاتيوشا، كرسائل ضغط إيرانية صريحة.
في المقابل ثمة موقف كردي صريح، وسني أقل صراحة، يُفضِّل بقاء هذه القوات لضمان استقرار علاقات القوة المختلة أصلا، بينهم وبين الفاعل السياسي الشيعي. والحكومة العراقية، في هذا المشهد، مدركةٌ جدا لضرورة الإبقاء على القوات الأمريكية في العراق، وتدرك أيضا أنه لن ينتج عن هذا الحوار أي تعاون استراتيجي طويل الأمد (والذي تحدثت عنه اتفاقية العام 2008) في ظل عدم وجود مؤشرات حقيقية، لا عراقيا ولا أمريكيا، لقيام هكذا تعاون من الأصل!
في نهاية تموز الماضي، انتهى الحوار العراقي الأمريكي، بعد أربع جولات من المفاوضات. ولم يكن البيان الختامي، ولا التصريحات السياسية التي أدلى بها الطرفان، سوى اتفاق على «التلاعب باللغة»؛ من خلال الحديث عن ان العلاقة الأمنية بينهما «ستنتقل بالكامل إلى المشورة والتدريب والتعاون الاستخباري، ولن يكون هناك أي قوات قتالية أمريكية في العراق بحلول 31 كانون الأول/ ديسمبر 2021». اللافت أن الجانب العراقي كان ينكر دائما ان ثمة «قوات مقاتلة» على الأرض في العراق؛ فقد أصدر مكتب رئيس مجلس الوزراء العراقي حيدر العبادي في 2 كانون الأول/ ديسمبر 2015 بيانا قال فيه بالنص: «الحكومة العراقية ملتزمة بعدم السماح بتواجد أي قوة برية على أرض العراق، ولم تطلب من أية جهة سواء إقليمية او من التحالف الدولي إرسال قوات برية إلى العراق» بل إن البيان عدّ إرسال هكذا قوات «عملا عدائيا»!
وقد تحدث رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي في لقاء صحافي بتاريخ 5 شباط/ فبراير 2019 بأن «لا قواعد أمريكية في العراق، بل هناك مدربون في إطار التحالف الدولي»!
لكن فجأة تغير الموقف الرسمي وبدأ الحديث عن «قوات مقاتلة أمريكية» لم يعد للعراق حاجة لها! فقد قال رئيس مجلس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الشهر الماضي قبيل زيارته لواشنطن بالحرف: «لا حاجة للقوات القتالية الأمريكية ولكن نحتاج للدور التدريبي والاستخباري» وأن زيارته المقررة في 26 تموز/ يوليو هي «لإنهاء الوجود القتالي الأمريكية لأن قواتنا أصبحت جاهزة». ولكن السيد الكاظمي لم يخبرنا هل القوات الجوية الأمريكية مشمولة بتوصيف «القوات القتالية» أم لا؟ لأن الجميع سيكتشف لاحقا انها غير مشمولة!
في الواقع وبرغم كل هذا التخبط في الخطابات الرسمية والشعبوية، لن يتغير أي شيء على الأرض، فلن ينسحب جندي واحد من الجنود الـ 2500 الموجودين في العراق حاليا، والجميع يعلم ذلك، وكل ما سيحدث هو إعطاء توصيف جديد لهذه القوات يضفي الشكل القانوني لها كونها قوات للمشورة والتدريب والتعاون الاستخباري دون تغيير حقيق في طبيعتها أو عدتها، فالطرفان الأمريكي والعراقي قد تعهدا باستمرار تعاونهما في إطار التحالف الدولي ضد الإرهاب وهو تحالف سمح، بالفعل، بتواجد هذه القوات في العراق. وكل ما حدث مؤخرا، لا يعدو كونه لعبا على اللغة لا أكثر!

القدس العربي

جمعة, 06/08/2021 - 14:24