حول اللسان العربي.. مفارقات النطق السليم للحروف

محمد المبارك التيرابي

يفتقر كثير من الناس إلى الغيرة على لغتهم العربية الأم، فهم لا يأبهون للتحدث بالفصحى، إذ يتخوفون، أو يستحون من ذلك حتى لا يتهمهم كثير من الناس بالتشدد والتشدق (من باب الكِبْر والتعالُم)، والخروج على المألوف، ومنهم من يسخر ضاحكا من "فعلتهم" تلك، ولكنهم عندما يتحدثون بلغة غير لغتهم كالإنجليزية مثلا، فعلى النقيض من ذلك تماما، تراهم ينتشون ويتحرّون الدقة في قواعد النحو وفي النطق ومخارج الحروف، ويعتبرون عدم الإيفاء والالتزام بذلك عيبا يتوارون منه حياء وخَفَرا.

وإدخال بعض الكلمات الإنجليزية في أثناء حديثهم بالعربية إشارة قوية للقدرات المعرفية والثقافية العالية لديهم حسبما يتوَّهمون، حتى ولو نطقوا بعض الحروف خطأ، فهم لا يُفرقون مثلا بين نطق حرف "P" "الثقيل"  وحرف "B" "الخفيف"، ففي قولهم "PURE" و "PEOPLE" و "PAPER" مثلا، ينطقون الحرف "P" باء "خفيفة" كما هي في اللسان العربي، مما يؤدي ذلك إلى إرباك السامع الذي يتحدث اللغة الإنكليزية كلغته الأم على سبيل المثال.

ما يدعو إلى الدهشة أن الكثير ممن يُحسبون على العلم والمعرفة، لا يجتهدون في ممارسة النطق الصحيح لبعض الحروف كالقاف والذال والثاء والظاء، حتى يتعودوا على ذلك، وبعضهم يؤم الناس في الصلاة بجرأة مع سبق التعمد والإصرار، ولا يُبدي أي اجتهاد في معرفة ذلك بالمِران البسيط على النطق الصحيح، ومنهم من يبلغ فوق الـ60 من العمر، وبالتالي يتعذر معه التوجيه والتلقين، فيختلط المعنى المراد بل وقد يفسد تماما

وبهذه المناسبة أسرد هنا قصة طريفة؛ وهي أن عربيا سافر إلى أميركا، وذات مرة وهو يقود سيارته، استوقف أحد المارة من الأميركيين وكان هذا الأخير -فيما يبدو- يعاني من اضطراب عقلي، وسأله العربي بالإنجليزية حرفيَا "هل بوسعه أن يتوقف هنا؟" يعني التوقف بسيارته (?‏Can l "bark" here) وهو يقصد كلمة "park" بحرف "P" "الثقيل"، والمقصود بها "يوقف"، وكلمة "bark" بحرف "B" "الخفيف" تعني بالإنجليزية "ينبح"، ففهم المواطن الأميركي بعفوية أن الرجل يسأله "عمّا بوسعه أن ينبح هناك!"، فجاء الرد بالإنجليزية سريعا وصاعقا "أن هذه بلاد حرة، بمقدورك أن تنبح فيها كيفما شاء لك أن تنبح، لا ضير في ذلك إطلاقا!"، وواصل صاحبنا الأميركي سيره بهدوء، متعجبا من تحفظ ذلك السائح في التردد من القيام بحق مشروع له في بلاد حرة!، كل ذلك وسط حيرة أخينا العربي الذي لم يفهم شيئا البتة.

نعود لحديثنا عن العربية، فما يدعو إلى الدهشة أن الكثير ممن يُحسَبون على العلم والمعرفة، لا يجتهدون في ممارسة النطق الصحيح لبعض الحروف كالقاف والذال والثاء والظاء، حتى يتعودوا على ذلك، وبعضهم يؤم الناس في الصلاة بجرأة مع سبق التعمد والإصرار، ولا يُبدي أي اجتهاد في معرفة ذلك بالمِران البسيط على النطق الصحيح، ومنهم من يبلغ فوق الـ60 من العمر، وبالتالي يتعذر معه التوجيه والتلقين، فيختلط المعنى المراد بل وقد يفسد تماما، فمثلا "ذو القوة المتين" تختلف عن ذي "الغوة" المتين، والقوي تختلف عن الغوي، فالأخيرة من الغواية أي الضلال والانقياد للهوى.

فقلب "القاف" "غينا" إهمالا وتسيُّبا، جهلا وتجاهلا، وبخاصة في قراءة القرآن الكريم، أمر غير مقبول،
ففي الآية "اهدنا الصراط المستقيم" تُقلب عند كثير منهم إلى "المستغيم"، ومنهم من لا يستطيع نطق القاف بصورة صحيحة في كلمة المستقيم مهما كان، فقد انطبع لسانه على نطق القاف "غينا" آمادا طويلة منذ نعومة أظافره من غير رقيب أو مُذكِّر، وبرغم أنه نال حظا موفورا من التعليم. وقولهم كذلك "غولا سغيلا" في الآية "إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا".
والمولى عز وجل في محكم تنزيله يقول "أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا"، فمن ضمن معاني الترتيل -كما هو معروف- إعطاء الحرف حقه ومستحقه؛ نطقا وتجويدا.

وينطبق الأمر على حرف الثاء الذي ينطق سينا عند بعض القوم في بلاد مختلفة، وكذلك حرف الذال الذي يُنطق زايا، والغريب في الأمر أن بعض "المتعلمين" -وقد بلغوا من العمر عتِيا- لا يعرفون أن الظاء ينبغي أن يُخرِج فيها المرء لسانه قليلا ليستقيم النطق السليم، فمثلا في قوله تعالى "فنادى في الظلمات" هنالك اختلاف في النطق يستبينه السامع في حالة إذا ما أخرج القارئ لسانه أم لم يخرجه في نطقه للظاء في كلمة "الظلمات"، حتى وإن لم يُرَ وهو يفعل ذلك، وهكذا ينطبق الحال على حرفي الذال والثاء.
وأيضا نجد البَون شاسعا في نطق حرف الثاء عند الكثير من الناس في كلمة الكوثر التي ينطقونها "الكوسر" وكلمة الثمرات تُنطق "السمرات" وفي قولهم "الزين" بالزاي من الآية "صراط الذين أنعمت عليهم"، ونارا "زات" لهب في الآية "سيصلى نارا ذات لهب"، وهذا ما يحدث بين الكثير في عديد من الدول.
إنه منتهى الخمول وعدم المبالاة، والركون إلى الجهل، إذ ينبغي على المرء -خاصة إذا كان "متعلما"- أن يعرض قراءته للقرآن الكريم على الذين أوتوا العلم في حلقات التلاوة مثلا، وذلك قبل فوات الأوان، فالمؤمن مرآة أخيه، وهذا من أسرع الطرق لاختبار وفحص الذات، إن جاز هذا السبك.

ومن عجب أن هنالك من يلحن في قراءة القرآن الكريم، وهو يؤم الناس في الصلاة سنين عددا، ولم يجرؤ أحد على مواجهته بالحقيقة المُرة طيلة هذه المدة من القلة القليلة من المصلين الذين يُدركون هذا الخلل الآثم، لعدم اكتراثهم بذلك، ولربما خشية اللوم أو الإحراج. نعم، إنهم يخشون الناس والله أحق أن يخشَوه.
ومنهم من يُحسب على العلم والمعرفة كما أشرنا سابقا، ولكنه لا يُدرك أنه لا يدرك ذلك، فهو يعيش في وهم واهم في ظل يقين بعض الناس حوله بكفاءته، و"طمأنتهم" له على نحو من الأنحاء بأنه سيُدرك -لا محالة-حقيقة ما يجري لو كان هنالك أخطاء منكرة، فلو كان في الأمر -في تصورهم- ما يستوجب الاعتراض والتوجيه لما توانى صاحبهم في فعل ذلك بحكم "تعليمه"، وهم قوم لا يعلمون.

وأكثر ما أضرّ بهذه الأمة وأوجعها في صميم فؤادها -في زماننا هذا- الإهمال والتكاسل والتواكل تارة، والتجاهل والوهم و"الترهل" تارة أخرى، في ظل غفلة أو "تخوُّف" بعض الراشدين من القيِّمين على الأمر، على عكس ما هي الحال عليه في الدول التي تغار على لغة القرآن الكريم، حيث يُمعَن التدقيق في صحتها وسلامتها من عدمهما، وذلك على الأقل من قبيل التحبيب والترغيب، ابتداء من المراحل الدراسية الأولى للنشء، ليترسخ بعدها إيمان المرء بدينه وموروثاته تبعا لتمكنه من معرفة مفردات لسانه العربي نطقا وسبكا، معنى وفهما؛ وبخاصة عند غوصه في أعماق الأعماق، ليَطمئن قلبه يقينا فوق يقين.

سبت, 18/12/2021 - 13:12