مكاشفة مدريد منتصف طريق التشييد

أحمد ولد الدوه

يكاد يجمع المراقبون على أن الفترة الانتقالية الأولى التي قادها الراحل اعلي ولد محمد فال كانت من ضمن أفضل المراحل التي مرت بها بلادنا منذ تأسيسها قبل ستة عقود.
وإذا نظرنا إلى المنجزات خلال تلك الفترة فإننا نجدها محصورة في إنهاء مرحلة من عمر الدولة والتأسيس لأخرى؛ أما تلك التي تلامس حياة المواطن بشكل مباشر فإننا نجدها منحصرة في زيادات الرواتب التي أعلن عنها الرئيس الراحل رحمه الله. 
ولعل أبرز القيم التي أسس عليها المراقبون حكمهم على المرحلة الانتقالية الأولى تكمن في مبدأ المكاشفة الذي انتهجه العقيد أعلي حيث شبه ماترك سلفه من الدولة أنذاك بالمتجر المليئ بالأكياس والكراتين الفارغة أوالمنتهية الصلاحية.
وبعيدا عن ذلك تابعت ليلة البارحة حديث رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني أمام أعضاء الجالية في إسبانيا وخصوصا تلك المتعلقة منها بالوضعية المالية للبلاد، وتوقعت إشادة واسعة بمنهج "المكاشفة" الذي اعتمده الرئيس في خطابه.
فالرائد الحقيقي هو الذي لايكذب أهله؛ حتى ولو جاءت الحقيقة على عكس هواه، كما أن تشخيص الحالة هو منتصف العلاج؛ والآمال الكاذبة غشٌ بيّن؛ ومعرفة الحقيقة هي منعطف التصحيح.
إن مكاشفة رئيس الجمهورية لشعبه بوضعية البلاد أمر لم نتعود عليه من قبل؛ فمعظم من حكموها وتركوا ميراثهم الثقيل لخلفاءهم كانوا يعطون في خرجاتهم الإعلامية صورة وردية كاذبة عن وضعها، وبالتالي فلابد أن نعتبر الخطوة التي قام بها الرئيس غزواني هي أولى لبنة في طريق البناء؛ بدليل مخالفتها لسلكوك الأفراد الذين وقفوا وراء الوضعية البائسة التي تحدث عنها الرئيس، كما أن معرفة الخلل تقتضي علاجه بشكل تلقائي، والغزل أبرز محفزات الغرور، وترك الناس في غفلاتهم وأد مضمون لمشاريع الإصلاح، وحين يأتي النداء من مقدمة القافلة فإن الجميع سيمارس فعل الإنصات.
وسياسيا لا غرابة حينما يتحدث الرئيس بهذه النبرة أمام جالية في بلد أوروبي؛ حيث أن تمرير الرسالة من هناك أنسب من تمريرها داخليا؛ فمعظم الأبواق التي تمارس جلد الذات في نقد الواقع الداخلي تقيم في تلك البلدان؛ وتؤسس انتقادها على مقارنات مجحفة بين محالّ إقامتها و بلدها الأصلي في تجاهل تام للفوارق بين حال تلك البلاد المسنة ودولتنا الفتية.
لقد شكلت صرخة رئيس الجمهورية مساء أمس دعوة واضحة لضرورة العمل بجد وإخلاص؛ وقرار جمهوري بوقف جميع أنواع الفساد، فمن غير المستساغ منطقيا أن تكون البلاد في حاجة ماسة لكل ساعد من سواعدها؛ وكل دانق من مواردها، ويتم إفساد هذا أو ركون ذلك للكسل والسُبات.
ولا غرابة أن رئيس الجمهورية حينما شخص الواقع؛ مرر رسالة أمل مشروطة بالعمل والإصلاح؛ والأمثلة على ذلك واضحة في كلامه، فاختيار -التسول، والمياه والكهرباء- كان عن وعي تام لأن التسول يحيل للاتكالية وضعف الخدمات يحيل إلى الفساد وسوء التسيير.
ولعل هذا ما حدا برئيس الجمهورية إلى القول أن موريتانيا "ذات آفاق" بعدما شخّص واقعها مستدلا بالتصنيف الدولي لها؛ وبما أنه لا قلة مع التدبير ولا كثرة مع التبذير؛ فإن الفرص الوطنية التي بنى عليها الرئيس حديثه واضحة في مجالات المناجم والزراعة والصيد والتنمية الحيوانية لكن بشرط العمل والتسيير المعقلن.
لقد تحمّل حكم الرئيس غزواني إرثا ثقيلا؛ وتركة تنوء بها الكُدى، كما ظل معظم من توارثوها يغطون على عيوبها ويفاقمون أزماتها؛ مستغلين محدودية الوعي الشعبي، لكن سنتين من التشخيص بعيون ثاقبة وقلوب صادقة كانت كافية لكشف مؤامراتهم، وإطلاع الشعب الذي أتمن من هو أهل للأمانة على ذلك الواقع.
 وبالتأكيد فإن "مكاشفة مدريد" بقدر ماهي نهاية مرحلة من تضيل الشعب؛ هي أيضا نقطة بداية لمرحلة البناء والتشييد.

جمعة, 18/03/2022 - 14:11