إن الإصلاح ليس ثورة عبثية، ولا هو بأحلام وردية، تتجاوز الواقع والواقعية؛ إنما الإصلاح تأسيس لمشروع جدي، يقوم على أسس صلبة، وفق رؤية واضحة، ويسير بخطى ثابتة، خاصة إذا كان ذلك المشروع الإصلاحي يستهدف قطاعا محوريا، تقوم عليه نهضة الأمم، وبه تزدهر حضارتها، وتحتل مكانتها في عالم، يحاول أن يغزو المريخ، ألا وهو التعليم.
إن قطاعنا التعليمي وصل إلى مرحلة، تتطلب من الجهد ما وصل إليه التعليم من الانهيار والتدني، ويتسم بالتعقيد بقدر ما يحتاج إلى قدر كبير من الحكمة والتروي والتفكير العميق، الذي يتجاوز السطحية، التي نظر بها إليه كثير ممن اعتلوا مكانا في قيادته.
ومن غير الإنصاف، بل ومن غير الحكمة والعقل أن ننتظر ثمرة إصلاح قطاع -هذه حاله- في سنتين أو ثلاث، أو حتى خمس سنوات، فهذه تكاد لا تكفي للتأسيس ووضع القاطرة على السكة الصحيحة.
نحن لا نغفل أن حالة التعليم ما تزال متأخرة، ووضعية المدرس صعبة، وأننا نحتاج بذل مزيد من الجهد والتفكير؛ ولكننا كذلك نرى ما قطع من أشواط، ليس بالسهل، من أجل إصلاح منظومتنا التعليمية ونظامنا التربوي.
إن الناظر بعين الإنصاف إلى قطاع التعليم الآن، حين يقارنه بما كان عليه قبل ثلاث سنوات، سيدرك -لا محالة- أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، ولا ينبغي أن نختلف في هذه الظرفية، إلا في حجم الإنجاز ومناسبته للإمكانات المتوافرة؛ فإذا أخذنا المصادر البشرية كمثال، -بوصفها من أهم المرتكزات التي يقوم عليها إصلاح نظامنا التعليمي- سنجد تقدما كبيرا، وتطورا مهما في التعامل مع هذا الملف.
- في تنظيم هذه المصادر استحدث نظام (sige) الذي يعتبر ثورة حقيقية في نظام الإصلاح الجديد، حيث مكن من ضبط المصادر البشرية ومعرفة توزيع خريطتها، على الأقل من الناحية الشكلية، بعد ما كانت تشهده من فوضى، وصلت لتشبيه حركة تنقل المدرسين بطريقة إرسال الرصيد، هذا بالإضافة إلى ضبط حركة تحويل التلاميذ ومعرفة أعدادهم، والحد من فوضى الترشح للمسابقات والامتحانات الوطنية.
- ولأول مرة في العقود الأخيرة يخضع المدرسون لتكوين شامل، إثر تحديد حاجياتهم، رغم معارضة البعض (وهو أمر مستغرب)، حيث استفاد الآلاف من التكوين المستمر، الذي لم يعد مرتجلا، ولا ينطلق من حاجيات المستهدفين، بل أصبحت التكوينات تعتمد معايير تنظيمية وجدية حقيقية، وأصبحت استراتيجية مستمرة في رؤية الإصلاح الجديد.
- وقد نظمت الوزارة في هذا الصدد عشرات الورشات والملتقيات، التي تشكل دعما مهنيا لطواقمنا التربوية والإدارية، وتساهم في زيادة خبراتها وتجاربها، وتحسن من أدائها، ومن الغريب أن ينظر بعضنا إلى الورشات اليوم بتهكم، وكل العالم يراها مؤشرا على النشاط والفاعلية ومجالا، لا غنى عنه، بل مطلوبا ومرغوبا في تطوير أداء المصادر البشرية.
- وفي إطار دعم المصادر البشرية كذلك، نظمت أكبر مسابقة تشهدها البلاد، لترقية طواقمنا التربوية، وانتقال بعضهم من سلك إلى آخر، حيث فتح الباب، لترقية 1000 معلم مساعد إلى سلك معلم، و1000 أستاذ إعدادية إلى أستاذ ثانوي، وذلك بعد عشر سنوات من توقف هذا النوع من الترقية، كما تمت تسوية قضية مقدمي خدمة التعليم، ونظمت مسابقة لاكتتاب 1200 منهم، وسويت قضية المعلمين المكلفين بالتدريس في التعليم الثانوي، وذلك بفتح الباب أمام ترقية 600 معلم، هي عددهم الإجمالي، وكذلك فتح الباب أمام المكلفين بالتدريس في مدارس تكوين المعلمين، لجعلهم مكونين.
- وبالنسبة للتكوين الأولى للمصادر البشرية، اعتمدت وزارة التهذيب رؤية شاملة، لإصلاح مدارس تكوين المعلمين، فتم تحديد شروط صارمة للولوج، وكذلك شروط أخرى للتخرج، وأحدثت مناهج وآليات للتكوين، تساهم بشكل كبير في تكوين كادر بشري، قادر على أداء مهمته على أحسن وجه.
- هذا بالإضافة إلى اكتتاب 100 مكون لهذه المدارس، بعد توقف الاكتتاب لها لأكثر من خمس عشرة سنة.
- وقد رد الاعتبار للمفتشية العامة للتعليم وتم تفعيل دور التفتيش التربوي، وتزويد بعض المفتشين بسيارات، للقيام بمهامهم، واكتتاب عشرات المفتشين، لتعزيز أعدادهم، هذا بالإضافة إلى الاكتتابات السنوية لمئات المدرسين.
- ولم تغب الوضعية المادية للمدرسين عن التحسين، وإن كان ذلك ما يزال دون المأمول، إلا أنه حاول أن يسد فجوة، لا يغالط من وصفها بالكبيرة في علاوة البعد، التي تجاوزت زيادتها 150%.
فكيف نشكك اليوم في انطلاق مشروع الإصلاح؟!
ومع هذا لا نقول إننا وصلنا إلى نهاية الطريق، فالطريق طويلة جدا؛ ولكن كل هذه الخطوات، التي قيم بها في مجال واحد، أخذناه نموذجا، وهو المصادر البشرية -ناهيك عن غيرها وغيرها من المجالات الأخرى- تقول بأننا نسير في الطريق الصحيح، ولكن للأسف، ما يزال البعض يشكك، ويلمز، ويهمز!