عاش في بغداد أيامَ شيخنا الجاحظ كناسٌ بغدادي اسمه مُسَبِّح الكنّاس. كان يقضي سحابةَ يومه وسوادَ ليله بين الكُنُفِ الممتلئة، والبالوعاتِ المتجشئة، وفضلات البشر النتنة. وذكر الجاحظ أن مُسَبِّحاً هذا اشتقّ لنفسه مذهبا وفلسفة في الروائح بناه على قياس فاسد.
كان يزعم أن النَّتنَ قد استولى على العالم، "وأن الدنيا منتنةُ الحيطان والتّربة، والأنهار والأودية، إلّا أنّ النّاس قد غَمَرَهم ذلك النتنُ المحيطُ بهم، ومحقَ حسَّهم له طولُ مكثه في خياشيمهم". فوفقاً لمذهبه لاوجود لزهرة عطرة، ولا لشاطئ طيب النسمات، ولا لفضاء فيه روحٌ أو استرواح.
وقد قرأتُ هذا النص على صديق لي فقال ضاحكا: "إن الكناس قاس ما في الخارج على ما في الداخل بصيغة منطقية". فظنَّ أن عالم الناس مثل عالمه الذي سلَبَه حاسةَ الشم؛ فقاس بقيةَ الأماكن والأنوف على مكانه وأنفه.
وعندما قرأت النص ذهب ذهني لبعض المهتمين بالشأن العام في بلادنا. فبعضهم منتنُ الداخل، سيء الظن، كَلْبُّي النَّحيزَةِ (Cynical) لا يؤمن بشيء ولا يرى للأخلاق وزنا، ثم يقيس كل من يتعامل معهم أو يقرأ لهم في الفضاء العام على ما يعرف من نفسه ويرى من طبيعته. إنه يقيس ما في الخارج على ما في الداخل. وهو، لخراب ضميره، يظن كل أحد لا ضمير له، ولا يكاد يتحدث عن سياسي أو داعية إلا جرده من كل المعاني الخلقية التي يفتقدها في تضاعيف نفسه المُعْتِمة.
ولمواتِ معاني الدين بين جوانحه، وفساد معاني الإنسانية فيه -التعبير لابن خلدون- صار هذا الكناس الفكري يُفلسف أنه لا وجود لمتدين أصلا، وليس في الدينا عالم مخبتٌ، ولا سياسيٌّ صادق، ولا ناشط يحرق أعصابه سعيا للخير وإصلاحا للمجتمع.
ليت مُسَبّحاً علم أن في الدنيا جبالا تفوح عبيرا، وودياناً تتضوع عطرا وريحانا، وحسناواتٍ نجلاوات الأعين، عطراتِ الأردان. وليت كناسينا علموا أن في الدينا علماء مخبتين، وساسةً صادقين مؤمنين يحولون العالمَ إلى محراب يتعبدون الله فيه بكل تصرفاتهم وهم صادقون.
لم لا؟ فالعالم محرابٌ ومسجدٌ وطَهُور، لا كنيف نتنٌ كما زعم مسبّح... رحمه الله.