المقاولات الصحفية: قراءة في المسار، وتلمس لعوائق التمهين

الهيبه الشيخ سيداتي

"أخبار الأسبوع"، "موريتاني نوفل"، "الأمل"، "الراية"، "لاتريبين"، "أخبار نواكشوط"، وغيرها، أسماء سيطرت لفترة على اهتمام الرأي العام الموريتاني، ووفرت له الحق في الإعلام ومتابعة المستجدات، ثم بادت، فكأنها لم تسد يوما. وقليل من الجمهور المتهم اليوم من يتذكر هذه الأسماء رغم أنها كانت يوما ما ملء السمع والبصر، وكان الجمهور يتسابق لاقتناء نسخها من الأكشاك قبل نفادها، بحثا عن الخبر الساخن، والتحليل الرصين، والمتابعة الدقيقة، والتنوع المفيد.

تطرح هذه التجربة إشكالية عويصة قد تكون خير صورة لتقريب واقع الإعلام المستقل لدينا. فبلدنا ربما يكون الوحيد من بين بلدان العالم الذي لا توجد به مؤسسات إعلامية ذات تجربة عريقة تعد بالعقود. بل إن متوسط عمر المؤسسة الصحفية هنا يتراوح ما بين 15 إلى 20 سنة، تتلاشى بعدها وتختفي، لتبدأ تجربة أخرى، أو ربما تجارب أخرى، ومن الصفر.

يرجع فشل تجارب المقاولات الصحفية في هذه البلاد – من وجهة نظري – لسببين:

أولهما: إرادة سياسية ترى في الإعلام الناجح خطرا عليها، وتحاربه بكل الوسائل الناعمة، بل وحتى الخشنة أحيانا. مع أنها لو وسعت أفقها لأدركت أنه يخدمها ويخدم المجتمع والبلد بشكل عام، وليس ما تظنه أضرارا يتسبب فيها سوى كشف لأعراض من شأن الاهتمام بها وتداركها أن يقي من أمراض أخطر، وأشد فتكا.

أما السبب الثاني فهو ذاتي، يعود لهذه المقاولات نفسها، حيث إنها لم تنجح في إقامة قواعد مقاولة صحفية قابلة للاستمرار، ولم تؤمن مقومات مؤسسية تعصمها عند المخاطر وتضمن ديموتها وصمودها أمام الهزات.

وليست هذه الإشكالية سوى رأس جبل جليد من مشاكل أخرى طويلة عريضة، سأضرب الذكر صفحا عنها لأنها - في الحقيقة - معروفة لكل المتهمين، وتظهر بشكل واضح في المخرج الإعلامي، وفي واقع المؤسسات الصحفية المؤسف الذي آن للبلاد أن تتجاوزه.

هذه الخلاصة المتعلقة بضرورة تجاوز الواقع أضحت هي الأخرى محل اتفاق تماما كالتشخيص غير الإيجابي لواقع الإعلام المستقل في البلاد. لكن السعي المعلن لتجاوزه لم يؤت أكله إلى اليوم، بل إن بعضه كان له مفعول عكسي.

وسأكتفي بمثالين:

المثال الأول: هو صندوق الدعم العمومي للصحافة المستقلة، هذا الصندوق الذي كان ينتظر منه أن يقوي المقاولات الصحفية، ويؤسسها تأسيسا سليما، ويرفع منسوب المؤسسية والمهنية، كان – بكل أسف – سببا في زيادة التمييع، وقتل المؤسسات، وتضييع مئات الملايين من الأوقية دون فائدة تذكر.

دعونا نلقي نظرة على مساره منذ انطلاقته سنة 2012 إلى اليوم (2022)، لنرى أين ذهبت 2 مليار أوقية من مال الشعب! ألا يستحق هذا السؤال أن يطرح؟!

لقد بلغ عدد المؤسسات – وضع تحت كلمة المؤسسات ما شئت من خطوط – التي قدمت للاستفادة من الصندوق في أول نسخة 63 صحيفة استحقت الدعم منها 32، و37 موقعا إلكترونيا استحق الدعم منها 23 موقعا. واليوم وصل عدد الملفات المترشحة 105 صحيفة ورقية و261 صحيفة إلكترونية و31 هيئة صحفية و9 مؤسسات سمعية بصرية، استبعدت اللجنة المشرفة 44 ملفا منها بسبب جدة رقمها الضريبي، أي حداثة إنشائها، أو بشكل أدق تسجيلها القانوني.

وإذا قارنا الأسماء، سنجد أن العديد من المؤسسات التي استفادت من الدعم خلال أعوامه الأولى تلاشت، وأن مؤسسات مستفيدة من الدعم الجديد ولدت وتناسلت خلال السنوات اللاحقة، كما يعكس الرقم المرفوض مستوى هذا التكاثر غير الصحي، حتى لا أقول السرطاني الضار.

كما أوردت الهابا في تقريرها ملمحا طريفا حول هذا العام، حيث سجلت أن المبلغ المخصص لدعم الصحافة الورقية تحول، واقعيا، إلى دعم لباعة الأوراق، حيث إن الصحف الورقية أضحت مجرد نسخة متأخرة من الإعلام الإلكتروني تنسخ ما يرد فيه بحرفية، وتحول الصدور إلى هدف في حد ذاته بغض النظر عن المضمون والرسالة.

لقد كان المبلغ الذي أنفق خلال العقد المنصرم كافيا لبناء مقرات للمؤسسات التي كانت موجودة عند إطلاقه، كما كان كافيا لتوفير تجهيزات ومعدات حديثة ترتقي بالإنتاج الإعلامي في البلاد، وكان كافيا لتكوين نوعي داخل البلاد وخارجها لجيل إعلامي قادر على أداء الرسالة بثقة وجدارة، لكنه بدد بطريقة غريبة، فأضر من حيث أريد له أن ينفع.

أما المثال الثاني، فهو مجال الإشهار، الذي يشكل أحد مجالات دعم الإعلام المستقل وتعزيز استقلاليته، من خلال رعاية العملية الإشهارية وصيانة حقوق كل أطرافها من صاحب الإشهار إلى وسيلته، إلى المضمون، والذي يشكل تدقيقه حماية للمتلقي بالضرورة.

لقد حسمت البلاد خيارها في المجال، فسنت قانونا تطلب العمل عليه فترة طويلة، وأنشأت سلطة للإشهار، يقترب طاقمها الآن من إكمال مأموريته دون أن يقوم بعمله، ومن بين أسباب ذلك رفض وسائل الإعلام العمومية تسديد مستحقاته – تماما كما رفضت توقيع دفاتر الالتزامات أمام الهابا – وهو ما قتل هذا الصندوق في مهده. فالقانون إما أن يكون عاما ومجردا أو لا يكون، ولا يمكن أن يطبق على مجال من الإعلام دون مجال، أو صنف منه دون صنف.

ولا يمكن أن أتجاوز مجال التقنين دون إشارة، ولو خاطفة، فقد عرف تضخما كبيرا دون أن ينعكس على واقع الإعلام، ضبطا للمجال، أو رقيا بالممارسة، أو حماية للمؤسسات بنعوت وصفات جامعة مانعة.

ولكي أخلص إلى ما أريد الوصول إليه، وقد أطلت الحديث في الواقع، وحق لي ذلك فالحديث في هذا الموضوع ذو شجون، أود تسجيل بعض المقترحات التي أرى أن تطبيقها بصرامة كفيل بإنهاء حالة الفوضى التي يعيشها المجال الإعلامي، وإعادته إلى الجادة، لأداء رسالته المقدسة في خدمة الحقيقة وإشباع نهم الجمهور بالمنتوج النافع، والمساهمة في زيادة الوعي العام، وتدعيم الشفافية.

وهذه المقترحات هي:

1. إنشاء معهد خاص بالصحافة، وفرض تكوين مستمر على كل الإعلاميين، وعلى المؤسسات لصالح عمالها، وتقييمها على هذا الأساس.

2. تحويل الدعم العمومي من سيولة ضائعة إلى قروض ميسرة للمؤسسات، وتحديد مجالات صرفها في بنود تقوي رأس مال المؤسسة المادي والمعنوي.

3. تعزيز التعددية في الصحافة المستقلة المدعومة رسميا، ويمكن الاستفادة في هذا المجال من تجارب الدولة المشابهة كلبنان، والأردن، ومصر، والجزائر، وإلى حد ما المغرب.

4. إدخال وسائل الإعلام العمومية ضمن منظومة الضبط العمومي، سواء ما يتعلق منها بضبط المضمون (توقيع دفاتر الالتزامات) أو ضبط العائدات (قانون الإشهار).

5. وضع حد للتضخم القانوني في المجال الإعلامي، وجمع النصوص ذات الصلة في مدونة قانونية تلم شتاتها، وتطبيق المعاييره والضابط القانونية بصرامة، وأول ذلك تحديد من هو الصحفي، وما هي المؤسسة الصحفية.

6. وقبل كل هذا تعزيز الحرية، فالحرية هي أوكسجين الصحافة، فلا صحافة من دون حرية، وهذا يقتضي حمايتها من غير الصحفيين ففي انتهاك هؤلاء حرمة مجال الصحافة اعتداء متعدد الأطراف، فهو اعتداء على الصحافة، وعلى الحقيقة، وعلى المجتمع في حقه بحماية فضاءاته العامة.

7. حماية مصادر تمويل الصحافة عبر تنظيمها وضبطها، وحمايتها من التبعية والابتزاز.

مقال نشرته في عدد خاص من مجلة الشعب الصادرة اليوم

أربعاء, 04/05/2022 - 13:15