ما الذي تعنيه حقاً دعاوى "بناء الإنسان"؟

عقيل عباس

كثيراً ما يشير محللون وسياسيون وخطباء دينيون واجتماعيون، بل احياناَ، متخصصون في علوم انسانية، الى أن جذر مشكلة عامة مفترضة أو حقيقية هي في الإنسان وبالتالي فإن الحل لها يكمن في "بناء الإنسان". 

تتضمن بعض الامثلة على مثل هذه المشاكل ضعف الحافز الفردي في الحفاظ على الملكية العامة أو التدهور في المستوى الدراسي العام، أو تردي الحس بالوطنية او تراجع الأخلاق أو التأثر بالموضات الغريبة أو "الدخيلة" وتقليد الغرب في مجالات كثيرة وسواها.  

وبغض النظر عما إذا كانت هذه مشاكل حقيقية أو متخيلة، فإن الافتراض السائد في التعاطي معها هو أن المجتمع، عبر المؤسسات الرسمية والأهلية، التي تُمثل بمجموعها الثقافة العامة لهذا المجتمع، ينبغي أن يتولى تشكيل الإنسان على نحو صحيح لمنع ظهور مثل هذه المشاكل أو لمعالجة آثارها عند ظهورها. 

يحظى مثل هذا الخطاب الأخلاقي بالكثير من القبول والاتفاق معه في الحيز العام العربي إلى حد اعتباره بديهة أخلاقية. في الحقيقة "بناء الإنسان" فكرة قمعية تعكس هيمنة الاستبداد السياسي او الديني في المجتمع وسيادة الجماعة على الفرد فيه.

كانت بداية الفكرة في الأنظمة الشمولية الشيوعية والقومية التي برزت في القرن العشرين، قبل أن تجد طريقها إلى الانظمة الدينية، وذلك في إطار الدولة الحديثة التي، عبر تطورها التكنولوجي والتنظيمي والإداري الهائل تستطيع أن تضبط المجتمع وتقوده. فمن خلال أجهزة الرقابة وأدوات القانون واحتكار الحيز العام تستطيع هذه الدولة أن تحدد القيم الصحيحة التي على المرء تبنيها وتمثلها في سلوكه كي يصبح مواطناً صالحاً أو مثالياً، وبخلافه يصبح منبوذا أو مجرماً. قصة الصبي السوفياتي بافل موروزوف مفيدة في هذا الصدد رغم البشاعة التي فيها. 

في مطلع ثلاثينات القرن العشرين، بدأت الدولة السوفياتية بقيادة جوزيف ستالين مخططاً للتخلص من طبقة مزارعين من المُلاك الصغار يطلق عليهم الكولاك (kulak) الذين لم تتجاوز حيازاتهم الزراعية بضع هكتارات. أممت الدولة مزارعهم وحولتها إلى مزارع جماعية مملوكة للدولة يشتغل فيها الملاك المزارعون أنفسهم ويسلمون منتوجها كاملاً للدولة مقابل حصص لهم فيه لإطعامهم. 

كانت السياسة فاشلة وتسببت بالكثير من العناء والجوع ما اضطر بعض المزارعين لسرقة جزء من المنتوج الزراعي. خبأ أحدهم بعض الحبوب ليستخدمها فيما بعد عند الحاجة. متأثراً بالدعاية الرسمية القوية التي كانت تشدد على أهمية الولاء للدولة وإطاعة القانون، قام أبن هذا المزارع، الصبي بافل ذو الـ ١٣ عاماً، بإبلاغ السلطات عن فعل أبيه. بسبب ذلك (التهمة الرسمية كانت تزوير وثائق وبيعها لأعداء الدولة السوفياتية) حُكم على الأب بالسجن ١٠ سنوات قبل أن تقرر السلطات تشديد العقوبة وإعدامه.

على إثر ذلك قام أفراد من عائلة الصبي بقتله لتعتقلهم السلطات وتعدمهم رمياً بالرصاص. مدح ستالين الصبي في الإعلام واعتبره شهيداً بطلاً والنموذج الصحيح والمثالي للمواطن السوفياتي الذي ينبغي أن يحتذي به الآخرون: يقدم مصلحة الدولة على صلة الدم العائلية. احتفت السلطات السوفياتية على نحو واسع ببافل: سميت مدارس باسمه وتُليت قصائد تخلده وأُلفت قطع موسيقية وأدبية عنه. 

حتى الاديب السوفياتي مكسيم غوركي وقف خطيباً أمام الشبيبة الشيوعية في العام التالي لهذه المأساة، ١٩٣٣، ليمدح ما سمّاه "الفعل البطولي" للصبي "الرائد". مثال آخر من العالم العربي: في أثناء الحرب العراقية-الايرانية في الثمانينات، استقبل صدام حسين أباً عراقياً وقام بتكريمه وإطرائه عبر شاشة التلفزيون لأن الرجل قتل ابنه بسبب فراره من الخدمة العسكرية. صورت السلطات فعل الأب على أنه انتصار للوطنية العراقية على قوة قرابة الدم.

برغم القسوة الشديدة والطبيعة الاستثنائية في هذين المثالين، وهناك أمثلة كثيرة شبيهة، بعضها أقل قسوة، في أنظمة شمولية وديكتاتورية أخرى، فإنها تعرض البراهين على قدرة الدولة القمعية، عبر خليط من قابليات القسر الأمني والتحشيد الأيديولوجي الذي يقترب من غسيل الدماغ الجمعي، على فرض نموذجها للمواطن الصالح والأخلاق المناسبة في الحيز العام.

ومع تراجع قوة القسر الأمني في تشكيل الإنسان في العقود الماضية بسبب تفكيك الشمولية كمنظومة حكم، بقي للتحشيد الأيديولوجي، سواء بشكله الاخلاقي أو الديني أو السياسي، قدرة كبيرة على فرض نموذج طوعي، وليس قسرياً، بخصوص "الإنسان الصالح". في كثير من الخطاب الوعظي، سواء الاجتماعي أو الديني في العالم العربي، تبرز الشكاوى من التدهور الأخلاقي المزعوم للمجتمع مشفوعةً بالدعاوى لضرورة "بناء الإنسان" كبداية صحيحة لتشكيل المجتمع على نحو سليم واخلاقي. في جوهرها، تستعيد هذه الدعاوى التي تلقى قبولاً واسعاً، طابعَ الاشراف الأخلاقي على الفرد الذي كانت تتسم به سابقاً الأنظمة الشمولية في إطار هندستها السياسية والاجتماعية للحياة.

تكمن المشاكل الاساسية في مثل هذه الدعاوى القمعية، المغلفة غالباً بنوايا نبيلة ولكنها مضللة، في ثلاثة أمور مترابطة. الأول هو في تصور أصحابها أن هناك نموذجاً واحداً وصحيحاً للسلوك الاخلاقي ينبغي أن يتعلمه الجميع وأنها هي التي تعرفه وتستطيع أن ترشد الآخرين له.  ينطبق هذا تقريباً على كل اللوم المعتاد للناس الذي يرد في منابر خطب الجمعة الدينية والوعظ التلفزيوني المجاني الذي يقدمه "متخصصون" في شتى المجالات الإنسانية، فضلاً عن "محاضرات الوطنية" في خطب سياسيين طامحين وبارعين.

 الثاني هو في ارتياب أصحاب هذه الدعاوى، وهو ارتياب عام في العالم العربي، بالفرد والنظر إليه بوصفه كائناً ضعيفاً ومنقاداً وبحاجة دائمة إلى رقابة المجتمع وإشرافه، أي رفض إمكانية الاستقلال الفردي واحتمالات بناء وتطور هذا الاستقلال داخلياً عبر ملاحظات الفرد وتجربته ومتابعته لنفسه والآخرين في سياق المجتمع. وتبرز هذه النظرة "الإشرافية" على الآخر بقوة عموماً عند التعاطي مع المسائل المرتبطة بالشباب والنساء والاطفال. 

الثالث، وربما الأهم، هو حقيقة أن طريقة التفكير هذه، القائمة على إشراف المجتمع على الفرد، تنطوي على رفض الفردانية بما تعنيه من حرية إنسانية ينبغي أن تكون مكفولة للجميع، أي حرية المرء في أن يفكر لنفسه ويختار ما يمثله وأن يجرب أفكاره ويخطئ فيها وينمو عبر التعلم من أخطائه وتصحيحها. في الثقافة العربية، يُنظر للخطأ عموماً على أنه عار وعيب، بدلاً من لحظة تعلم من فشل يقود إلى المعرفة والنضج.  

من دون الإيمان قولاً وفعلاً بحق المرء في التفكير والاختيار وعيش خياراته، وحماية القانون لحق المرء هذا، لن يخرج العالم العربي من الإغراء الخطر للأفكار الشمولية والإشراف الأخلاقي على الآخرين.

نقلاعن سكاي نيوز عربية

خميس, 05/05/2022 - 19:08