عائدات موريتانيا المالية من الغاز: أي مستقبل للتنمية؟ (1)

سيد أحمد ابوه ‏

الجزء الأول يشمل المقدمة والمحورين الأول والثاني.

تقديم

كان مفترضا أن ينتج حقل شنقيط للنفط الذي دخل الخدمة سنة 2006 حوالي 75 ألف برميل نفط يوميا وكانت نفس الآمال معقودة على إنتاج الآبار الخمسة من النفط والغاز والتي دخلت تباعا الخدمة منذ ذلك التاريخ ولكن جرت رياح التعقيدات الفنية والجيولوجية وسوء تقدير الدراسات الأولية بما لا تشتهي سفن الاقتصاد الموريتاني فانهار الإنتاج بسرعة إلى 15 ألف برميل سنة 2007 ف 7 آلاف برميل سنة 2013 ليصل أقل من ألفي برميل سنة 2016 قبل أن يتم التخلي نهائيا عن التجربة الوليدة نهاية سنة 2017 لانعدام فرص الربحية. 
بعد تجربتها العاثرة مع النفط تستعد موريتانيا للولوج إلى نادي البلدان المنتجة والمصدرة للغاز الطبيعي نهاية 2023 مع ما يحمله حدث استثنائي كهذا من آمال وتطلعات مشروعة للموريتانيين في مستقبل زاهر لبلدهم الذي أثخنته ولا تزال جراح الفقر والتخلف والفساد والغبن منذ عقود.
طبيعي أنه كلما اقترب أجل بداية استغلال ثروة الغاز اشتد ضغط الموريتانيين على من حملوهم مهمة تسيير شؤون بلادهم وذلك بغية إطلاعهم على حقيقة تقدم هذا المشروع الواعد وما يمكن أن يحمله لهم من أجوبة على استحقاقات وانتظارات تتعلق بتحسين مستوى عيشهم وخلق فرص للعاطلين منهم والنهوض بالبنية التحتية والدفع بعجلة نمو الاقتصاد بما يضمن خلقا للثروة وتوزيعا عادلا لها وتحصينها من عبث شبكات الفساد وقد توقعت شخصيا توضيحا من القطاع الفني المعني وذلك بعد تصريحات نسبت لوزير المالية السينغالي متحدثا أمام برلمان بلاده حول حجم استفادة السينغال من مداخيل النفط والغاز بما فيها أساسا عائدات حقل السلحفاة الكبير-آحميم للغاز والذي تشترك معهم فيه بلادنا. بدل التوضيح جاء تصريح مقتضب  لوزيرنا للاقتصاد في مؤتمر صحفي متوج للاجتماع الأسبوعي للحكومة: "سنحصل على ما سيحصلون عليه"، طبعا للقارئ أن يتساءل: هل كان هذا الرد موفقا؟ أترك لكم الحكم بعد مطالعة المقال كاملا.
يهدف هذا المقال الذي سينشر في أربعة أجزاء إلى استعراض مسار البلاد الماضي والحاضر واستقراء المستقبل بالنسبة لحقل السلحفاة الكبير-آحميم عبر محاور ستتناول عقد تقاسم الإنتاج وحجم الاكتشافات والاحتياطات من الغاز والشراكة مع السينغال والشركات الأجنبية لتطوير واستغلال الحقل وعوائد الغاز المالية لكل من موريتانيا والسينغال قبل أن أخلص إلى مقاربة التنمية الاقتصادية المنتظرة لأختم باستعراض التحديات والفرص المرتبطة بالغاز.
سأسعى ما استطعت إلى ذلك سبيلا ألا يبقى لدى القارئ بعد مطالعته هذه الورقة كثير أسئلة حول هذا الموضوع وألتمس العذر عن أي تقصير.

 

المحور الأول: حول عقود تقاسم الإنتاج

وقعت شركة Kosmos Energy الأمريكية غير المصنفة ضمن كبريات شركات البترول في العالم في 05 ابريل 2012 عقد استكشاف-انتاج مع الحكومة الموريتانية يغطي المقطع C8 في الحيز البحري الوطني بالمحيط الأطلسي وهو عقد تحكمه ضوابط القانون 2010-033 بتاريخ 20 يوليو 2010 والمتضمن مدونة المحروقات الخام بموريتانيا وبموجب هذا العقد تتمتع الشركة الأجنبية بحصرية التنقيب وحصرية الاستغلال في حال اكتشاف مخزونات قابلة للاستغلال التجاري (أي مربحة) في مساحة هذا المقطع وتم بالتالي منحها رخصة تنقيب لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد مرتين مدة كل منهما ثلاث سنوات مقابل إرجاع 25% من مساحة الرخصة عند كل طلب تجديد ومقابل التزامات محددة في دفتر شروط ينظم تفاصيل الاستثمارات المحملة تكاليفها بشكل إجمالي على الشركة الأجنبية (مسوحات زلزالية وحفر بئر تنقيب بعمق 2500 متر في عمق البحر)  ومقابل ضمان مالي عن كل فترة من الفترات الثلاث للتنقيب. 
تضمن الشركة الأجنبية منح حصة قدرها 10% للشركة الموريتانية للمحروقات (SMH) دون أن ينتج عن ذلك أي عبء مالي على هذه الأخيرة ولها أيضا أي SMH أن تزيد حصتها ب 4% إضافية في حالة اكتشاف مخزونات للاستغلال وهو ما تم لاحقا بالفعل.
تنص مدونة المحروقات الخام بموريتانيا على اعتماد مبدأ مؤشر الربحية المعروف انكليزيا (R Factor) في تحديد آلية تقاسم أرباح الإنتاج وهكذا يسمح للشركة المتعاقدة بالاحتفاظ بنسبة أعلاها 65% من الإنتاج من الغاز لتعويضها عن التكاليف التي تحملتها خلال فترتي الاستكشاف والتطوير وهذه النسبة تسمى نفط الكلفة (Cost oil) وقد تمكنت موريتانيا من الإبقاء على هذه النسبة عند 62% في العقد الموقع مع الشركة أي بثلاث نقاط أقل مما تسمح به مدونة المحروقات  وبعد ذلك يتم تقاسم الباقي من الإنتاج ويسمى نفط الربح (Profit oil) حسب مؤشر الربحية والذي يتم احتسابه عن طريق قسمة مجموع المداخيل المتحصل عليها تراكميا من طرف الشركة الأجنبية على مجموع التكاليف التي تحملتها وقد حدد العقد ست وضعيات للتقاسم حسب هذه الآلية ففي أسوأها حين يكون مؤشر الربحية أقل من 1 تحصل موريتانيا على 31% من إنتاج نفط الربح وتحصل الشركة المتعاقدة على 69% وفي أحسن الوضعيات حين يكون مؤشر الربحية يساوي أو أعلى من 3 تحصل موريتانيا على 42% وتحصل الشركة المتعاقدة على 58%.
لا يؤدي دخول مساهم جديد في حصص العقد إلى أي مراجعة لبنود التقاسم كما حصل حين دخل العملاق البريطاني BP في المشروع عبر اقتنائه 62% من الأسهم الإجمالية من عند Kosmos Energy ذلك أن تعويضه سيتم تناسبا مع حصته ولم يكن للشركة المتعاقدة من خيار بعد تأكد وجود مخزونات هائلة من الغاز وبعد مغادرة شريكها الأولي شركة Chevron الأمريكية إلا البحث عن شريك استراتيجي بمواصفات عالمية قادر على تعبئة الأموال الضرورية والتقنيات المطلوبة لتطوير واحد من أعمق حقول الغاز في العالم بعمق يزيد على 5200 متر تحت البحر.
أخيرا يجدر التنويه إلي أن الفضل يعود لجمهورية اندونيسيا في نشأة عقود تقاسم الإنتاج وذلك حين فرضت سنة 1967 هذه الصيغة على الشركات الأجنبية الناشطة عندها في مجالي النفط والغاز بدل ما كان سائدا من نهب ممنهج لثروات البلدان النامية من طرف عمالقة النفط باستغلالهم للحقول المكتشفة مقابل عقود استغلال بإتاوات جزافية ورمزية وقد نحت جمهورية  إيران ( المالكة لثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا) منحى آخر في توطيد سيادتها على الحقول المكتشفة بها بفرضها صيغة أخرى بديلة عن عقود تقاسم الإنتاج التي رأت أنها ظلت مجحفة وذلك حين ألزمت منذ 1994 كل الشركات الأجنبية بصيغة تمثلت في عقود إعادة الشراء (Buy Back contracts) كما ينبغي الإشارة إلى أن لمؤشر الربحية المتبع من طرف موريتانيا بديل آخر أكثر إنصافا ودائما ضمن منظومة عقود تقاسم الإنتاج في شقها المتعلق بنفط الربح وهو المتمثل في المعدل اليومي للإنتاج (DROP : Daily Rate Of Production) والذي يعتمده جارنا الجنوبي وشريكنا في المشروع وسنتناول أثره في المحور الرابع من هذه الورقة.

 

المحور الثاني: حول الاكتشافات والاحتياطات من الغاز

باشرت شركة Kosmos Energy أعمال التنقيب في عمق المياه ومع تقدم حملات مسوحاتها الجيولوجية والجيوفيزيائية تحصلت على معطيات ومؤشرات مكن تحليلها إثر حفر بئر تنقيب من الجزم بوجود كميات من الغاز الطبيعي القابلة للاستغلال تجاريا وقد شجعها هذا التطور في التنقيب وقبل إعلام الجانب الموريتاني  إلى استهداف السوق السينغالي لضمان تواصل جغرافي لعمليات تنقيبها في المنطقة الحدودية البحرية للبلدين وهكذا استحوذت في 25 أغشت 2014 على 60 % من حصة عقد استكشاف وتقاسم انتاج حقل سينلوي بالمياه العميقة السينغالية  والتي كانت بحوزة شركة Timis Corporation ltd التي استبقت 30% كحصة سيتم الاستحواذ عليها لاحقا في 2017 من طرف شركة BP. ولفهم الصورة بالنسبة لما حصل من اكتشافات خلال السنوات الماضية وما حملته من نتائج عن احتياطات مؤكدة من الغاز (بالنسبة لموريتانيا والسينغال) أو من النفط (بالنسبة للسينغال) ولارتباط الاكتشافات بالبلدين أو لكل واحد منهما على حدة وما لذلك من علاقة بالعائدات المالية حين يتم تناولها لاحقا فسنستعرض المعطيات المتوفرة عن الاكتشافات حسب حجمها وموقعها الجغرافي كما يلي:
-    الاكتشافات في الحيز الحدودي البحري المشترك: تمكنت عمليات Kosmos Energy للاستكشاف ثم للتنقيب لاحقا من تأكيد وجود مخزونات هائلة من الغاز الطبيعي في حقل السلحفاة الكبير-آحميم والذي يغطي مساحة تمتد على جزء من جنوب المقطع الموريتاني C8 وجزء من شمال المقطع السينغالي سينلوي البحري وتقدر احتياطيات هذا الحقل المشترك بين البلدين والقابلة للتسويق تجاريا بأكثر من 15 اتريليون قدم مكعب من الغاز (450 مليار متر مكعب) وتتولى BP و Kosmos Energy تطويره وقد تم بلوغ القرار النهائي للاستثمار به بالنسبة لمرحلته الأولى في يناير 2019 وتم عاما قبل ذلك توقيع الاتفاق المشترك بين السينغال وموريتانيا بخصوص التسيير المشترك لثروة الحقل في حين لا زالت المرحلتان الثانية والثالثة في انتظار اتخاذ القرار النهائي للاستثمار.
-    الاكتشافات في الحيز الموريتاني الخالص: أعلنت شركة Kosmos Energy  عن اكتشافات هائلة من الغاز الطبيعي إثر تحليل بيانات بئر التقييم في حقل بئر الله الواقع في المنطقة الشمالية من المقطعC8   في الحيز الموريتاني البحري الخالص بعيدا عن الحدود البحرية المشتركة وتم تقدير الاحتياطات ب 50 اتريليون قدم مكعب (1420 مليار متر مكعب) ولم يتم بعد بلوغ القرار النهائي للاستثمار وهناك آمال أن يكون ذلك الحدث وشيكا لتبدأ مباشرة خطة تطوير الحقل والتي ستحدد ما إذا كان التطوير سيتم ضمن برنامج من طور وحيد أو برنامج متعدد المراحل كما حصل مع حقل السلحفاة-آحميم كما سيتم معرفة الحجم القابل للتسويق من احتياطات الحقل (لتوضيح هذه النقطة بليست كل الاحتياطات قابلة للتسويق تجاريا حيث أن ال 15 اتريليون قدم مكعب القابلة للتسويق من حقل السلحفاة هي من أصل 25 اتريليون قدم مكعب من الغاز الكامن بالحقل والمعروفة ب GIIP :Gas Initially In Place).
-    الاكتشافات في الحيز السينغالي الخالص: لا تهمنا كثيرا هذه الجزئية ولكن سنوردها باختصار لارتباطها بالجانب المالي حين نتناوله لاحقا (ولكي نفهم أسس أقوال الوزير السينغالي). لقد أعلنت Kosmos Energy سنة 2019 عن اكتشافات كبيرة من الغازهي بحجم حقل السلحفاة وذلك في مقطع كايارالبحري العميق بحقلي Yakaar et Teranga بالمحيط شمال غربي داكار وباحتياطات أولية قدرت ما بين 10 إلى 15 اتريليون قدم مكعب ولم يتم بعد بلوغ القرار النهائي للاستثمار بالنسبة لهذا الحقل. كما تمكنت شركتي Woodside et Cairn Energy سنة 2016 من اكتشافات بترولية بحقل Sangomar الواقع في مقطع SNE جنوب الحيز البحري السينغالي وقد تم بلوغ القرار النهائي للاستثمار به في يناير 2020 وسيدخل حيز الإنتاج في الفصل الثاني من عام 2023 وبطاقة 100.000 برميل نفط يوميا.

جمعة, 06/05/2022 - 10:36