مشروعية الاجتماع عند التعزية بلا كرنفال

محمد الامين ولد آقه

اعتاد كثير من الشيوخ وطلبة العلم التشنيع على الناس في جلوسهم عند اهل الميت في العزاء ؛ معتبرين ذلك نوعا من النياحة المنهي عنها !
والتحقيق الذي دلت عليه النصوص الشرعية ان الجلوس عند أهل الميت للعزاء مشروع وغير ممنوع ..
 ومن الادلة على ذلك : 
١- روى البخاري عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت إذا مات الميت من أهلها فاجتمع لذلك النساء ثم تفرقن إلا أهلها وخاصتها أمرت ببرمة من تلبينة فطبخت ثم صنع ثريد فصبت التلبينة عليها ثم قالت كلن منها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول التلبينة مجمة لفؤاد المريض تذهب ببعض الحزن.
وفي حديثها دلالة واضحة على أن الصحابة والتابعين كانوا لا يرون بأساً في الاجتماع عند أهل الميت للعزاء.
وقال ابن حجر في شرح حديث عاشة: (وفي هذا الحديث من الفوائد أيضاً، جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار). اهـ
٢- وروى عبد الرزاق وابن أبي شيبة في مصنفيهما انه لما مات خالد بن الوليد اجتمع نسوة بني المغيرة يبكين عليه ؛ فقيل لعمر : ارسل اليهن فانْهَهُنّ ، لا يبلغك عنهنّ شيء تكرهه..
فقال عمر : وما عليهن ان يهرقن من دموعهن على أبي سليمان..مالم يكن نَقعٌ أَو لَقلَقَةٌ. 
واخرجه البخاري معلقا فقال : 
 وقال عمر رضي الله عنه: "دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نَقعٌ أَو لَقلَقَةٌ"، قال البخاري وَالنَّقْعُ التّراب على الرَّأس وَاللَّقْلَقَةُ الصَّوْتُ.
وترجم البخاري ايضا في صحيحه فقال :  "باب من جلس عند المصيبة يُعرف فيه الحزن".
وقال المرداوي الحنبلي في "الانصاف" :(قال الخلال : سهّل الإمام أحمد في الجلوس إليهم في غير موضع.).(2/565) يعني : الجلوس الى أهل الميت.
*****
وقد استدل المانعون للجلوس عند أهل الميت والأكل من طعامهم بحديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : (كُنَّا نَرَى الِاجْتِمَاعَ إِلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصَنْعَةَ الطَّعَامِ مِنْ النِّيَاحَة).
وهذا الحديث معلول كما يتبين من طرقه : 
١- فقد أخرجه ابن ماجه والطبراني في معجمه الكبير من طريق هشيم عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي-رضي الله عنه ..
و هشيم بن بشير ثقة لكنه يدلس ؛ ذكره الحافظ ابن حجر في طبقات المدلسين  في المرتبة الثالثة.
و الأئمة لا يحتجون من أحاديثه إلا بما صرح فيه بالسماع.
وهو هنا لم يصرح بالسماع من إسماعيل.
وهذا الحديث اعله احمد والدارقطني كما في سؤالات ابي داود قال ابو داود  : ذكرت لاحمد حديث هشيم عن اسماعيل عن قيس عن جرير (كنا نعد الاجتماع عند اهل الميت وصنيعة الطعام من امر الجاهلية) قال : زعموا انه سمعه  من شريك قال احمد: ولا أرى لهذا الحديث اصلا. انتهى.
وسئل  الدارقطني في العلل  عَن حَديث قيس ، عن جَرير ، قال : كانوا يرون الاجتماع إلى أهل الميت وصنعة الطعام من النياحة.
فقال:يرويه هشيم بن بشير ، واختُلِفَ عنه ؛فرواه سريج بن يونس ، والحسن بن عرفة ، عن هشيم ، عن إسماعيل ، عن قيس ، عن جَرير. ورواه خالد بن القاسم المدائني – قيل : ثقة ؟ قال : لا أضمن لك هذا ، جرحوه ، عن هشيم ، عن شريك ، عن إسماعيل. ورواه أيضا – عباد بن العوام ، عن إسماعيل كذلك.أهـ
فدل هذا على ان هشيما دلسه فرواه عن اسماعيل والواسطة بينهما هو شريك النخعي وهو سيء الحفظ.
و خالد بن القاسم المدائني قال عنه البخاري في التاريخ الكبير : متروك
٢- واخرجه أحمد في المسند من طريق  نصر بن باب عن إسماعيل عن قيس عن جرير بن عبد الله البجلي.
وهذه المتابعة ضعيفة لأن نصر بن باب رموه بالكذب كما صرح بذلك البخاري في التاريخ الكبير. 
 وقال أبو حاتم في "الجرح والتعديل" :  متروك الحديث.
 ٣-  وأخرجه أسلم في "تاريخ واسط"  عن عبدالحميد عن يزيد بن هارون عن عمر أبي حفص الصيرفي عن سيار أبي الحكم عن عمر بن الخطاب .
وهذا الإسناد فيه انقطاع .
سيار أبو الحكم العنزي لم يدرك عمر فهو من الطبقة السادسة كما في التقريب لابن حجر .
٤ - وأخرجه ابن أبي شيبة في المصنف عن وكيع عن مالك بن مغول عن طلحة  عن جرير عن عمر.
وفي هذا السند ايضا انقطاع لان طلحة بن مصرف الهمداني الكوفي لم   يدرك  جرير البجلي بل ذكره ابن حجر في الطبقة الخامسة.
فدل هذا على ان الحديث لا ينتهض للاحتجاج ، ولا لمعارضة الاحاديث الصحيحة الدالة على مشروعية الجلوس عند أهل الميت للعزاء.
*****
واجتماع الناس عند أهل الميت لا ينافي مقصدا شرعيا..
ففي حديث ابي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حقّ الْمسْلمِ علَى الْمسْلمِ ستٌّ)، قيلَ: مَا هنَّ يا رسولَ الله؟ قالَ: (إِذا لَقِيتَهُ فسلِّم عليه، وإِذَا دعاك فَأَجِبْهُ، وإِذَا اسْتنْصحَك فَانْصحْ لهُ، وإِذا عطسَ فحمِدَ الله فشَمِّتْهُ، وإِذا مرض فَعُدْهُ، وإِذا مَات فتبعه) متفق عليه.
فدل الحديث على ان اتباع الجنازة حق للميت المقصود منه اظهار مكانته واظهار الاسف على فراقه.
وفي ذلك تكريم له..
وكما يتحقق ذلك باتباع جنازته ، فإنه يتحقق ايضا بالجلوس عند أهله للتعزية .
ولو كان مجرد الاجتماع للحزن على الميت من النياحة لكان الاجتماع لتشييعه ايضا من النياحة ؛ اذ لا معنى للتفريق بين الاجتماعين.
والنياحة التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم هي رفع الصوت وشق الجيب ؛ كما قال طرفة : 
اذا متُّ فانعيني بما انا أهله 
وشقي عليّ الجيب يابنة معبد.
واما مجرد الاجتماع عند أهل الميت  فلم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على انه من النُياحة 
وقول جرير (كنا نعد ذلك من الناحية) ليس له حكم الرفع على الصحيح؛ لانه لم يصرح بان ذلك كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم.  
وهذا القيد هو الذي أشار اليه العراقي في الفية الحديث بقوله : 
(وقَوْلُه (كنّا نَرَى) إنْ كانَ مَعْ ...
 عَصرِ النبيُ مِنْ قَبيلِ ما رَفَعْ).
*****
كما ان مقصود الشرع من التعزية وهو المواساة، لا يتحقق عادة الا بالجلوس الى أهل الميت والحديث معهم وتخفيف المصاب عنهم.
والتعزية معناها: أن تُصَبِّر المصاب وَتُقَوِّيَهُ على تحمّل المصيبة بذكر النصوص الدَّالة على فضل الصبر ليتسلى وينسى المصيبة ويحتسب الأجر.
وقد ورد عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ عَزَّى أخَاهُ المؤمِنَ فِي مُصِيبَتِهِ كَسَاهُ الله حُلَّةً خَضرَاءَ يُحْبَرُ بهَا يَومَ القِيامَة» قيل: يا رسول الله، ما يُحبر بها؟ قال: «يُغبَطُ».
والحديث أخرجه الخطيب في "تاريخه" ، وابن عساكر في "تاريخ دمشق".
واجتماع الناس حول اهل الميت قد يكون فيه جبر لما في قلوبهم من انكسار وانس لما فيها من وحشة وتقوية لما فيها من ضعف بسبب فقدهم لميّتهم.
والجلوس الى اهل الميت في العزاء مناسبة للاستغفار للميت وذكر محاسنه امام الناس حتى يشهدوا له بالخير فشهادتهم له بالخير قد توجب له الجنة.
والغربان التي أشار القرآن الى أنها علمت ابن آدم كيفية الدفن، في قوله تعالى :{فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَابࣰا یَبۡحَثُ فِی ٱلۡأَرۡضِ لِیُرِیَهُۥ كَیۡفَ یُوَ ٰ⁠رِی سَوۡءَةَ أَخِیهِۚ}.
هذه الغربان لا يموت منها فرد الا التفت حوله واجتمعت عليه.
فهو امر فطري جبلت عليه اغلب المخلوقات.
*****
واما بالنسبة للطعام فقد دل حديث عائشة على ان اهل الميت يشرع لهم ان يصنعوا الطعام لانفسهم ولا بأس ان يأكل من كان حاضرا معهم، بل يجوز لاهل الميت اذا دعت الحاجة ان يصنعوا الطعام لزوارهم  
 كما قال ابن قدامة في المغني : (وان دعت الحاجة الى ذلك جاز فإنه ربما جاءهم من يحضر ميّتهم من القرى والأماكن البعيدة ويبيت عندهم ولا يمكنهم الا ان يضيّفوه)،(410/2).
*****
ولكن ليس من المشروع تحويل العزاء الى كرنفال تهدى فيه النحائر وتذبح الذبائح؛ وتقدم الموائد، وتوضع الاشربة والعصائر للزوار ، ويشتغل الناس عن مواساة المصابين بإكرام الوافدين ؛ فكل هذا يتنافى مع الحكمة من مشروعية العزاء.
بل هو من البدع المحدثة التي حولت العزاء من قربة  شرعية الى عادة  بدعية 

سبت, 14/05/2022 - 09:47