معوقات الديمقراطية في الوطن العربي

تواجه قضية الديمقراطية معوقات وعقبات كثيرة وكبيرة خاصة بالنسبة للبلدان التي تسعى للانتقال الى نظم حكم ديمقراطية، علما ان هذه المعوقات ليست كلها من نوع واحد، وليست هي نفسها في كل بلد. السؤال الذي يتردد على ألسنة الكثيرين في العالم العربي هو: لماذا تعجز الديمقراطية في أن تجد لها تربة خصبة في معظم البلدان العربية؟ 

أغلب النظريات تدور حول طبيعة الجغرافيا السياسية وبنية وطبيعة الثقافة السياسية العربية-الإسلامية في مواجهة ثقافة التعددية والتنوع والاعتماد على نظام العائلة والقبيلة والطائفة، ومنها ما يتعلق بالحالة التي أوجدتها إفرازات الاقتصاد الريعيوالدولة الريعية وثقافة الاستهلاك، كحائط صد في إحداث التغييرات الفاعلة، بالإضافة إلى دور القيادات السياسية في إجهاض التجارب الديمقراطية الوليدة، وابتلاع المجتمع المدني، والالتفاف على التجارب التنموية المرتبطة بالمواطنة والحرية والعدالة الاجتماعية، وإقدام بعض الدول الكبرى على دعم ومساندة النظم الديكتاتورية والاستبدادية ماديا وعسكريا لخدمة أجنداتها الإقليمية، ومواجهة التحالفات المناهضة لسياساتها ومصالحها.

يتساءل الكثيرون، لماذا غابت الديمقراطية عن عالمنا العربي؟ يجيب على هذا السؤال "الدكتور حسن أبو طالب" بالقول: يمكن للمرء ان يضع يديه على مجموعة من الاسباب والعوامل البنيوية والمعنوية لهذا الغياب:

العامل الأول: يتعلق بطبيعة الثقافة السياسية السائدة في غالبية البلدان العربية، ونعني بها مجموعة القيم السائدة التي تتعلق بالحياة السياسية والعلاقة بين الحاكم والمحكوم، وهي قيم قائمة على طاعة عمياء لأولي الأمر دون مراجعة أو نقد، وتمجيد الزعيم والقائد واعتباره زعيما تاريخيا بيده مصير الأمة وقدرها، ولا يجوز النظر إليه إلا كخيار يتحكم به القدر مجيئا وذهابا. ومثل هذه الثقافة لا تحبذ دورا للجماهير إلا في إطار الوقوف خلف الزعيم لتأييده والانتصار له، ولا تتصور أن يكون لهذه الجماهير دور في تغيير الزعيم، أو الإتيان بغيره تراه الأفضل لها.

فالمطلوب منها هو البيعة أولا، وتجديد البيعة ثانيا وثالثا، ولا شيء غير ذلك. إنها جماهير مسلوبة الإرادة لا تعرف كيف تأخذ قرارها وليس مطلوب منها أن تكون كذلك. حين تشيع ثقافة سياسية تمجد الزعيم وتنزع عن الجماهير قدرتها على الفعل، يـصبح العقد الاجتماعي السائد قائما على نوع من التسلط والإكراه، وهما بندان يغيب معهما أي علاقة سوية بين الحاكم والمحكوم، كما يصبح المصير كله بيد نخبة محدودة العدد ولكنها مهيمنة على مفردات الحياة السياسية، مقابل غالبية جماهيرية مغيبة وغائبة معا.  

العامل الثاني: محدودية النخبة الحاكمة، والشيء المحدود هو منغلق على ذاته لا يسمح لأحد أن يدخله إلا بشق الأنفس ووفق مواصفات خاصة تتلاءم مع طبيعة النخبة نفسها. وحين تنغلق النخبة على نفسها، تصبح الوجوه هي نفسها التي تسيطر على المناصب الوزارية والهيئات الحكومية والأحزاب الشكلية، إن وجدت، والنقابات المهنية وحتى المنظمات غير الحكومية، إذا كان مسموح وجودها. ومع مرور الزمن، تصبح النخبة متقدمة في العمر، وفاقدة لعنصر الشباب ولا تعرف بالتالي ظاهرة تجديد الدماء أو تغيير الوجوه. وحتى إذا ما أُضِـيف عنصر أو آخر إلى النخبة، فيكون ذلك من قبيل ذر الرماد في العيون، أو لكفاءة خاصة تخدم النخبة الأم، او نوع من المكافأة لخدمات جليلة قدمت من قبل للنخبة الحاكمة. 

النخبة المحدودة في الحكم هي نوع من الشلة السياسية بكل ما فيها من ظواهر مرضية تتعلـق بالتشبث بالمناصب، وتقاسم المنافع في دائرة محدودة، والتمركز حول القائد الزعيم والتنافس من أجل إرضائه، أحيانا على حساب الوطن، وأحيانا أخرى على حساب الغالبية العظمى من المواطنين. إنها الحرس القديم متجذر المصالح الذي يدرك أن ذهاب الغطاء الشمولي عنها سوف يكشف كل موبقاتها وعوراتها، وكل ما خلفته للوطن من تراجع وتدهور. ومن هنا، فإن معركتها التاريخية هي ضد التغيير والتطوير. وحين تضطر لرفع شعارات ديمقراطية، تعرف تماما كيف تجعلها مجرد شعارات لا أكثر ولا أقل.

العامل الثالث: السياسات التعبوية التي تنتجها النخبة المنغلقة على ذاتها، وهي سياسات تسعى إلى حشد الجماهير وراء النظام دون أن تسمح لها أن تسهم في إدارة النظام أو تغييره سلميا، وهي تعبوية لأنها تأتي غالبا من أعلى إلى أسفل، وتغيب عنها فضيلة التفاعل المتبادل بين أركان وعناصر المجتمع. ونظرا لأنها تأتي من نخبة منغلقة على نفسها، فهي، أي السياسات التعبوية، تكون مصمـمة في الغالب الأعم على حماية واستمرار الوضع القائم. وقد تتضمن تلك السياسات بعضا من الفوائد والعوائد التي تمنح للغالبية العظمى من الناس، تكمن أساسا في الجوانب الاجتماعية والصحية، ويكون هدفها إسكات الناس عن المطالبة بحقوقها السياسية المشروعة، وتعد في الغالب نوعا من الرشوة السياسية، وتدليلا زائفا على أن الحكم يراعي الجماهير الفقيرة والمتوسطة الحال.

استمرار هذه السياسات التعبوية والشعبوية هي نوع من الغزل غير العفيف بين حاكم فاسد، وبين محكومين مغيبين خانعين للأمر الواقع، وهو المؤشر الواضح على مأزق النظام وشموليته، وهو الدليل على أن وجود أحزاب أو بعض مفردات المجتمع المدني ليست إلا شكلا جماليا وديكورا فاقد المضمون. فالحياة الحزبية الحرة والمجتمع المدني الفاعل لا يستقيمان أبدا مع السياسات التعبوية.

كما ان غياب الديمقراطية العربية له صلة وثيقة بذلك الصراع الذي شهدته أنظمة عربية عديدة مع جماعات الإسلام السياسي. وإذا كانت تلك النظم بحاجة إلى التغيير، فإن الوسيلة والمنهج الذي اتبعته تلك الجماعات حيث العنف والقوة والمنهج الانقلابي على الدولة والمجتمع والناس أنفسهم، جاء بنتائج عكسية على الجميع.  
فمن ناحية برر للنظم الحاكمة قسوتها وشدتها وتمسكها بالوضع القائم لأن البديل الذي يطرح نفسه هو خارج القانون وهدفه السطو على الحكم. أما الجماعات نفسها، فقد أظهرت كيف أنها لا تعرف حرمة للناس ولا للمصالح الجماعية للمجتمع، وأنها تعلن سعيها لإعلاء الشرع في الوقت نفسه الذي تتجاوزه وتخرج عن أبسط قواعده ومسلماته التي لا خلاف عليها.

وبين الطرفين، ضاعت تضحيات المنادين بالتعددية والحرية والشفافية، واستقر المجتمع في أحضان النظم القائمة خوفا من مجهول قادم قد يستفيد من حرية عابرة ليحولها إلى شمولية أصولية مستحكمة.

المصدر: مقتطفات موجزة من مقابلة صحفية مع الدكتور حسن أبو طالب، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية.

إيلاف

حسن العطار
سبت, 08/09/2018 - 10:35