بدأ التفكير في مشروع الخارطة السياسية الوطنية التي يمكن اختصارها في وضع الأحزاب السياسية و الحركات والاحلاف والجماعات منذ شهر مارس الماضي بعد تسريب وثيقة سرية موجهة من وزارة الداخلية إلى الولاة في ولايات الوطن من أجل إعداد تقرير شامل عن الحالة السياسية العامة والتوجه السياسي للسّكان على أساسها يتم قراءة مستقبل النّظام السياسي.
وقد لا يكون هناك إشكالًا كبيرًا في قياس نبض القوة الحزبية في الجغرافيا السياسية بقدرما نُشكل على الاستراتيجية التي أجريت بها القراءة والتي تؤكد سعي النّظام للتخطيط للمرحلة القادمة التي ستمنح الشرعية للنّظام القادم كما ستحدد شكل الانتخابات البلدية والبرلمانية وصولًا للرئاسية. مشروع تطويق الحالة السياسية ودراستها طبقًا لأساليب قديمة و عبر الرموز التقليدية التي دأبت على شراء الذمم ،الدعم القبيلي ،تكريس الأحلاف القبلية ؛ هذا النهج القديم ولد في احضان نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد سيدي احمد الطائع وأسس لمدارسه في طبقتنا السياسية خلال فترة حكمه الأطول في عمر الدولة الموريتانية ، مبدأ كهذا يُكرس لفرعنَة الفرد الواحد في كل تجمع سكاني بأدوات السلطة والنّفوذ مقابل الولاء المطلق لحزب الدولة وهذا الأسلوب التقليدي يعزز التبعية ويسحق الطبقات الضعيفة من المجتمع ويقوّض إرادتها لتكون مسترقة اجتماعيا و اقتصاديا. واعتمدت وزارة الداخلية نفس "الهندسة" عبر وزراء سابقين عايشوا كل الأنظمة واكتسبوا مهارة في التزوير و(الغش السياسي) و أول إجراء رسمي في هذا الاتجاه انشاء "مزرعة خاصة" أُطلق عليها جزافًا إسم (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي) ثم بسط هيمنة بعض المسؤولين الأمنيين بالمال والسلطة للتأثير على المواطنين مُشكلين تيارات سياسية مأجورة بالمال وخاضعة للنفوذ إضافة إلى المنتخبين المحليين من عُمد ورؤساء الجهات ومن خلال هذه التشكلات وهذه الصورة الدراماتيكية تم بناء الخريطة السياسية التي اعتمدتها وزارة الداخلية كصورة تمهد لسياسة المستقبل. ولكن بالعودة إلى الواقع نجد أنها بعيدة من الحقيقة ولا تملك (الشخصيات الكرتونية) التي ذكر التقرير الغير دقيق أي نفوذ ولا يناصرها سوى المرتزقة المأجورين مسلوبي الإرادة وبائعوا الوهم، ومن يطالع بعض الاسماء يدرك أنها مهزلة أي تأثير سياسي و اجتماعي عند هؤلاء؟ سوى الظهور "الفلكلوري" في مناسبات ضمن جوق المبادرات الداعمة للرئيس السابق أيام كان يحكم البلاد؟ إن اختزال إرادة الشعب وخنق ديمقراطيته عبر وثيقة كهذه جريمة نكراء ترفضها كل قوانين السّماء و الأرض وانتكاسة حقيقة للديمقراطية.
-الحلف السياسي ؛ بسبب غياب نظام سياسي صالح للتنافس السياسي وانتشار فوضى المبادرات ودعم النّفاق وتجارة الولاء السياسي ودعم حشود الّلون والعرق والجهة ظهرت عناوين غريبة على العلوم السياسية المألوفة منها (الحلف السياسي) الذي تقوده شخصية ذات زعامة ديكورية تُغذيها اليافطة الشعبية الموروثة وهي مجموعة قبلية صِرفة تحمل إسم أسرة أو جهة معينة ،اتباع هذا اللّون السياسي هم المستضعفين من سكان القرى النائية والمهمشة التي سحقها الفقر والجوع ويسهل مصادرة رأيها، غالبيتهم لا يدركون مالذي يجري حولهم ولا علاقة لهم بالسياسة تستغل عمامة الحلف المزيفة جهلهم وتخلفهم ، كما يعتمد الحلف في حشد مناصرين له عبر الطّرق التقليدية مثل؛ القرابة والمصاهرة والتبعية العمياء ذات التخدير الديني إضافة إلى أوهام اثربلوجية! كما يدعم الحلف الفقراء والمرضى بأموال عمومية موجهة للسكان وهكذا يتم احتجاز إرادة النّاس واستغلالهم السياسي لصالح عمائم الاحلاف، وهذا يحتاج لمحاربة رسمية وقانون رادع يجرم استغلال المواطنين بدل أن تحتضنه دولة تعرف شيئًا عن الديمقراطية و احترام قدسية المواطن.
-المنتخبون ؛ كثير من العمد والبرلمانيين ورؤساء الجهة واعضاء المجلس الاقتصادي قدِموا إلى هذه المناصب عن طريق نظام الترشح الذي يفرزهم بشكل تلقائي وبالتالي ماكنة الفرز هذه هي نقيض للديمقراطية ولا تُمثل الإرادة الشعبية كما تُلغي كل مبادئ التنافس السياسي وآلياته، فالنظام الانتخابي يعاني الكثير من الاختلالات ولا يحترم مبدأ حرية الفرد ولا يمثل سوى الفاسدين الذين يتم وضع اسمائهم على رأس اللائحة بدعم من الحزب الحاكم الذي يفوز في كل المواسم ويتلون في كل حقبة ، لذا يكرس الكثير من المسؤولين السابقين الجهد في النفاق وحشد الجماهير للحزب وانشطته الرسمية في المدن و القرى و الارياف لتتم مكافأتهم لاحقًا بالترشح كممثلين عن الشعب في مناصب انتخابية فرضتها السلطة والنّفوذ وهذا ما يفسر سِر خلودهم في مناصب اصبحت تورث لأجيالهم بعد عجزهم البدني و العقلي أو انتقالهم إلى دار القرار.
-المؤسسة العسكرية ؛ يترأس الخريطة السياسية بحسب وزارة الداخلية مدير الأمن الوطني مسقار ولد سيدي عن ولاية الحوض الغربي و وزير الدفاع حننّه ولد سيدي عن ولاية الحوض الشرقي وذيول العهد الطائعي عن باقي المقاطعات في أكبر ولايات الوطن من حيث النّمو الديمغرافي واتساع الخارطة الجغرافية ، حين تتحول إدارة الأمن و وزارة الدفاع إلى كتلة سياسية رسمية داعمة لحزب الدولة علينا قراءة الفاتحة على روح الديمقراطية وهنا أدعوا المؤسسة العسكرية إلى اتخاذ الجرأة وتشكيل تيارها السياسي بشكل علني كما هو موجود في لبنان لننطلق من مبادئ المحاصصة والنّفوذ الرسمي! إذا كانت هذه هي الخارطة السياسية في عيون وزارة الداخلية هذا يعني عسكرة مشهدنا السياسي وتقويض رغبة الشعب بل هو إعدام رسمي لمشروع الديمقراطية ويعيد الدولة لمربع القبيلة.
بعد فشل الحكومة في تحقيق مشروع تنموي ناجح وانتشال المواطن من (الحالة البَرزخية) التي يعيشها مما يضمن تكامل المواطن مع الدولة لاستمرار صيرورة السياسة المتبعة وإطالة عمر النظام لجأ النّظام إلى تحديد الخريطة السياسية لتتم برمجتها لاحقًا وفقا للمصالح الفردية وبناء مستقبل الدولة الموريتانية على انقاض وترسبات الماضي مما يؤكد أننا نتراجع لا نتقدم. المواطن الموريتاني يتطلع إلى عهد جديد يبدأ بحل الاحزاب السياسية وإعادة بنائها وفق نظام حديث تُحترم فيه المعايير وتُستوفى فيه الشروط الضرورية مع سن قوانين للعمل السياسي تجرم سياسة الاحلاف والتكتلات بإسم القبيلة والجهة والمشيَخة ،كما أثارت هذه الوثيقة جدلًا واسعًا وامتعاضًا كبيرا لدى عامة النّاس بسبب اختيار شخصيات صورية لا تأثير لها ولاصفة معلومة تسمح لها بالحديث بإسم السياسية العامة ولا تملك أي مؤهل ولا حتى تفويض شرعي يسمح لها بتصدر المشهد السياسي خصوصًا في مقاطعة الطينطان و أطويل.
إن اختيار رموز الفساد ومعاونيهم لا يحترم خيارات الناس ويقوِض إرادتهم ويكرس للتبعية والغبن الاجتماعي وهو دليل على قيّام دولة الظلم وفرض الوِصاية، ومن هنا بات ضروريًا على النّظام التوقف عن صناعة الاصنام السياسية لأنها جريمة في حق المواطنين الذين يعيشون في مناطق نائية هم بحاجة إلى توفير الماء والكهرباء والصحة والتعليم أكثر من حاجتهم إلى انشاء آلهة بشرية تضع الحكومة كل ارزاقهم تحت وصايتها، الشعب الموريتاني سئم من تكرار سيناريوهات الماضي وإعادة تدوير الفاسدين وأدلَجة العقول، ودعم القبيلة وترسيخ مبادئ الاحلاف وتغذية الكراهية ، فالمواطن يتطلع إلى التغيير السياسي الذي يفضي إلى التنمية المستدامة والاصلاح الاداري والاقتصادي وليس التلاعب بمصيره وتمكين غير المؤهلين لقيادة مشروعه السياسي الوطني المحدد الوحيد لحالته الاقتصادية والاجتماعية والتنموية..