أمريكا أوّلاً في العالم والأولويّة لآسيا

 وائل عوّاد

لم تكن أزمة أوكرانيا والحرب فيها لتؤثّر على أولويّات الولايات المتّحدة في الصّراع على قيادة العالم، فهي على قناعةٍ تامّةٍ بأنّ المنافس الرّئيسيّ لهيمنتها والذي يهدّد مصالحها الحيويّة هو الصّين والصّين، ثمّ الصين. لذا تركت واشنطن حليفتها لندن والاتّحاد الأوربيّ للتعامل مع الملفّ الأوكرانيّ، و توجَّهَ الرّئيسُ بايدن إلى جنوبي شرق آسيا حاملاً معه إطار عملٍ شاملٍ بإنشاء مجموعةٍ اقتصاديّةٍ أعضاؤها من دول المنطقةِ، وتضمُّ قائمةً طويلةً من المشاريع الأمريكيّة لإعادة هيبتها في المحيطين الهندي والهادئ، وإقناع حلفائها بأنّ الولايات المتّحدة ملتزمةٌ في حمايتهم، عملاً بمبدأ الرّئيس الأمريكيّ السابق مبدأ “سياسة الأمن والسّلاح مقابل المال والموالاة” الذي مازال قائماً في المشروع الأمريكيّ في المنطقة في عهد الرّئيس الجديد، جو بايدن، خاصّةً وأنّ كوريا الجنوبيّة واليابان كانتا الدّولتين الرئيسيّتين اللّتين عارضتا الغزو الروسيّ لأوكرانيا وفرضتا عقوباتٍ على روسيا .

لقد تمثّلَ هذا النّهج الجديد للمشروع الأمريكيّ تجاه المنطقة بأوّل جولةٍ آسيويّةٍ للرّئيس الأمريكيّ بايدن إلى آسيا منذ تسلّمه الرّئاسة، وكانت كوريا الجنوبية محطّته الأولى، إذ تحتفظ الولايات المتّحدة بقاعدة اوسوان العسكريّة هناك، والتي قام بزيارتها وتفقّد الجنود الأمريكيّين المرابطين فيها. وتقع هذه القاعدة بالقرب من مدينة بيونغ تايك، وهي ميناء جنوب سيؤول على ساحل البحر الأصفر.

أراد الرّئيس الأمريكيّ طمانة نظيره رئيس كوريا الجنوبيّة بأنّ واشنطن متضامنةٌ مع سيؤول وملتزمةٌ بالدّفاع عنها من التّهديدات المحدقة بها من جارتها النوويّة بيونغ يانغ، وأنّها ستستأنف التّدريبات العسكريّة المشتركة بين البلدين التي توقّفت في عهد الرّئيس ترامب، على الرّغم من أنّ كوريا الشّماليّة تعتبرها تهديداتٍ لأمنها واستقرارها، إلّا أنّ واشنطن أرادت أن توجّه رسالةً إلى سيؤول تفيدُ بأنّها تنظر إلى ما بعد بيونغ يانغ، وهي إشارةٌ ضمنيّةٌ إلى الخطر القادم من بكّين حسب المفهوم الأمريكيّ.

وكان ظهور الرئيس بايدن جنباً إلى جنبٍ مع رئيس شركة هيونداي يوسيون تشونغ قد أكّدَ على أنّ الشّركة الكوريّة الجنوبيّة مستعدّةٌ للاستثمار في الولايات المتّحدة بحوالي 10 مليارات دولارٍ أمريكيٍّ بما في ذلك 5.5 مليار دولارٍ لشراء سيّارةٍ كهربائيّةٍ ومصنعٍ للبطّاريّات في جورجيا، وإنفاق 5 مليارات دولارٍ أخرى على الذّكاء الاصطناعيّ للمركبات ذاتيّة القيادة وغيرها من التّقنيات. وسارعت شركة سامسونغ العملاقة إلى التّأكيد على التزامها ببناء منشأة إنتاجٍ بقيمة 17 مليار دولارٍ في تكساس للشّرائح الرّقيقة مما يضمن جلب المئات من الوظائف للأمريكيّين .

وأثمرت الزّيارة عن تعهّد سيؤول بدفع فواتير الحماية الأمريكيّة وشراء منظومة الصّواريخ الأمريكيّة ثاد (THAAD) مقابل توفير الأمن والحماية من جارتها النوويّة بيونغ يانغ. ولا يستعبد أن تنضمّ كوريا الجنوبيّة إلى الولايات المتّحدة واليابان في الاستراتيجيّة الاقتصادية الطموحة الجديدة ذات الجوانب المتعدّدة عوضاً عن اتّفاقية التّجارة الحرّة الإقليميّة التي انسحبت منها الولايات المتّحدة في عهد الرّئيس دونالد ترامب .

وكانت المحطّة الثّانية للرّئيس الأمريكيّ هي اليابان، حيث يتباحث مع القادة اليابانيّين بشأن سبل تعزيز العلاقات الثنائيّة، خاصّةً العسكريّة، بعد المواقف اليابانيّة المتقاربة للولايات المتّحدة تجاه روسيا والصّين ورغبة اليابان في تحديث قدراتها العسكريّة. وكافأ الرّئيس بايدن طوكيو بدعم ترشيحها لعضويّةٍ دائمةٍ في مجلس الأمن في الأمم المتّحدة .

ويمكن تلخيص المشروع الأمريكيّ في ضمان بيع السّلاح الأمريكيّ للحلفاء الآسيويّـين، وإبقاء البعبع الصّينيّ، وبثّ الذّعر في دول المنطقة بالنوايا العدوانيّة للصّين في التوسّع وضم تايوان بالقوّة وتهديد دول المنطقة، ووضع خطّةٍ اقتصاديّةٍ لدعم الاقتصاد الأمريكيّ المنهار وضمّ دولٍ جديدةٍ للرّباعيّة التي تضمُّ الولايات المتّحدة واليابان وأستراليا والهند، وقد تنضمُّ إليها كوريا الجنوبية وفيتنام الأوفر حظّاً، وعلاوةً على ذلك ضمان حريّة الملاحة في المحيطين الهندي والهادئ، ودعم الأنظمة الديمقراطيّة حسب المفهوم الأمريكيّ.

“من يسيطر على المحيط الهندي يسيطر على آسيا ” – ألفرد ماهان

تسعى الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلى دعم الهند عسكريّاً، وتعويضها عن السّلاح الرّوسيّ، وضمّها إلى المعسكر الأمريكيّ لمواجهة التّحديات المقبلة من التّنين الصّينيّ. واعتبرت واشنطن نيودلهي شريكاً استراتيجيّاً منذ عام 2016، وأخذت تبرم معها العديد من الصّفقات العسكريّة، وتمارس ضغوطها لإلغاء الصّفقات مع موسكو التي تحاول واشنطن عزلتها عالميّاً. وبالتّالي فإنّ الولايات المتّحدة تريدُ ضمان القوّة الهنديّة البحريّة وقدرتها على حمايها مصالحها في المنطقة.

ومن بين المجموعة الرّباعيّة (كواد) التي تضمّ الولايات المتّحدة واليابان وأستراليا والهند، تقف الأخيرة خارج المجموعة في دعم العقوبات الأمريكيّة على روسيا، وتحاول الدّول الأعضاء، من وراء الكواليس ، إقناع دولة الهند الدّيمقراطيّة بضرورة الالتزام بالعقوبات الأمريكيّة الغربيّة على روسيا، وهذا ماترفضه الهند حتّى الآن، فهي ماتزالُ تستوردُ النّفطَ الرّوسيّ وتشتري السّلاح من روسيا، وثمّة تعاطفٌ لدى الشّارع الهنديّ مع موقفها تجاه روسيا. وعلى الرّغم من التفهّم الأمريكيّ للموقف الهنديّ، إلّا أنّ الرّئيس بايدن سيسعى لحثّ الهند من جديدٍ خلال لقائه مع رئيس الوزراء الهنديّ في طوكيو على العدول عن موقفها، وتذكير نيودلهي بالخطر المحدق من جارتها بكّين التي لم تخف أطماعها بقضم أراضٍ هنديّةٍ في جبال الهيمالايا حسب الموقف الهنديّ الرسميّ، وأنّ الولايات المتّحدة ستقدّم الدّعم اللّوجستيّ للهند في حال نشبت حربٌ بين عملاقي آسيا. وكلُّ هذا لا يمنع منظّمات حقوق الإنسان الأمريكيّة من انتقاد سجل الهند في حقوق الإنسان والحريّات الدّينيّة في ظلّ حكومة رئيس الوزراء – ناريندرا مودي – الأمر الذي تتجاهل حكومته القوميّة الهندوسيّة .

الرّباعية في طوكيو واحتمال توسعها

تعلّق الولايات المتّحدة الامريكية أهميّةً بالغةً لقمّة المجموعة الرباعيّة في طوكيو من منظور دورها الموسّع جنباً إلى جنبٍ مع مجموعتها الأوربيّة في تعزيزمواقفها المعادية للصّين وروسيا ، والتي تتزامن مع دخول الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة شهرها الرّابع وزيادة المخاوف من التّمدّد الصّينيّ من خلال إعطاء دورٍ للمجموعة بالمشاركة الإقليميّة مع تزايد المصالح للدّول الأوربيّة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

وممّا لاشكّ فيه أنّ الولايات المتّحدة تحاول جاهدةً إغراء دول جنوب شرق آسيا بالانضمام إلى تحالفاتها المعادية للصّين بشكلٍ خاصٍّ، وروسيا بشكلٍ عام ّ، اللّتين تتهّمهما واشنطن علناً بمحاولة زعزعة النّظام العالميّ وشنّ الحروب ضد جيرانهما .

وتسعى واشنطن لوضع هيكل تجمّعٍ اقتصاديٍّ جديدٍ يضمُّ أربع عشرة دولةً في المنطقة، ومحاولة إبعاد روسيا عن القمم المقبلة مثل قمّة رابطة الآسيان التي ستعقد في كمبوديا في 11-13 من نوفمبر| تشرين الثاني المقبل، وقمّة العشرين في أندونيسيا المزمع انعقادها مابين 15-16 من الشّهر ذاته والتي دعت فيها واشنطن جاكرتا بعدم دعوة موسكو للقمّة، الأمر الذي رفضته إندونيسيا وأدّى إلى انسحاب مسؤوليي الولايات المتّحدة من جلسة وزراء المالية في أبريل| نيسان الماضي، وكذلك التّقليل من أهميّة قمّة مجموعة دول البريكس .

وستستضيف تايلندة منتدى التّعاون الاقتصاديّ لآسيا والمحيط الهادئ بعد مجموعة العشرين مباشرةً وستكون روسيا حاضرةً. وبالتّالي فإنّ الصين ، من جانبها، ستنتهز الفرص التي خلّفها فراغ القيادة الدبلوماسيّة الأمريكيّة في آسيا لتعزيز دورها والتوقيع على اتفاقيّة الشّراكة الاقتصاديّة الإقليميّة الشّاملة (RCEP)، والتّرويج للتكامل الإقليميّ، وإقناع جيرانها الآسيويّين بأهميّة التّعاون والعيش المشترك كي يعمّ الأمن والسّلام، وضرورة الابتعاد عن المغريات الأمريكيّة التي تحاول جرّ دول المنطقة للتقاتل فيما بينها.

وقد بدأت هذه الخلافات الظّاهرة للعيان بين القوى العظمى بتوسيع فجوة الاستقطاب، وانعكست سلباً على دول المنطقة، وزادت من التوتّر والمخاوف من مواجهةٍ عسكريةٍ بين الولايات المتّحدة وحلفائها الغربيّين من جهةٍ وروسيا والصّين من جهةٍ أخرى.

ويتزامنُ هذا مع محاولة الولايات المتّحدة الأمريكيّة استعادة عافيتها الاقتصاديّة والعودة للهيمنة الاقتصاديّة وليس العسكريّة فقط، في الوقت الذي تسارع فيه الصّين التي تسبقها اقتصاديّاً بتحديث قدراتها العسكريّة لتضاهي الولايات المتّحدة خلال العقد المقبل والبحث عن بديلٍ للدّولار الأمريكيّ في المعاملات التّجاريّة للحدّ من وقع العقوبات الأمريكيّة ومصادرة رؤوس أموالها في البنوك الأمريكيّة الغربيّة كما فعلت بالأموال والصّكوك الماليّة التّابعة لروسيا بسبب حربها على أوكرانيا .

وهذا يعني أنّ الحرب الباردة قد بدأت وأنّ العالم يعيش فوق فوّهة البركان الذي لن ينجو منه أحدٌ.

نقلا عن رأي اليوم 

ثلاثاء, 24/05/2022 - 17:51