ضريبة البعاد

أحمد فال الدين

الإنسان كائن مشوقٌ بطبعه، ميالٌ لتربته وموطنه. ومِن شيمته النزوعُ إلى البقاء في الخميرة الثقافية والجغرافية التي أنتجته وأنضجته. ففيها مراتع صباه، ورائحة آبائه وأمهاته، وذكرياتُ أيامٍ قضاها الشباب هنالك. وفيها تعرّف على معاني الحياة الأولى، وتهجى الحروف، وجرب الإحساسَ الأول بالحياة. 
فما زالت الألوان والطعوم والروائح التي تتحكم في ذوقي –مثلا- منتزعةً من مكان ميلادي ونشأتي رغم أني طفتُ القاراتِ، وترددتُ في مناكب الأرض. ففي الوطن تتحدد الرغبات والميول والأفكار والصور التي تتحكم في أغلب البشر بقية حياتهم. ولذا كان التغريب –وهو طرد الإنسان من موطنه- عقوبةً دارجة في كل الحضارات. 
غير أن الإنسان أيضا قد يجد نفسه مخيرا في وطنه بين ذيْنك الخيارين الذين خُير بينهما بديع الزمان (ت: 398 هـ) يوم قال:  "إما الغربةُ، وإمّا التربة!.. إمّا أن أفارقَ أرضى، أو أفارق عِرضى". ومن هنا يترك معظمُ الناس أرضهم طوعا توقا لحال أفضل، على حد قول ابن الشيخ سيديا:
ومسقطُ رأسه ضرٌ ونفعٌ * وإلا فاتباع القارظيْنِ!
فالمغترب الموريتاني اليوم مغامرٌ بأنه متّبعُ قارظيْن، وملبّ لنداء ابن الشيخ سيديا ذلك. خاصة أن الغربة في أيامنا هذه ليست كالغربة في السالف؛ فقد كان كثير من بلاد المسلمين يسمون الغريبَ "عزيزا" ويقدمونه على أنفسهم. أما اليوم فقد بُنيت أسوار، ونشأت عقليات، وشُيدت سدود وحدود لا تُفسح للقادم، بَلْهَ أن تسيمه "عزيزا" أو تحتفي به.
لكن هذه العوائق أيضا تشحذ نفسية الغريب، وحاسةَ الأديب فتأتي بنتائج إيجابية في مسارب أخرى من الحياة. ولعل الأدب من أكثر المجالات التي تعتاش على حرقة الغربة، ولفح البعاد.
فالغريب البعيد عن مهجعه الطبيعي، تتنازعه الأشواق دوما لمنبته الأول، مما يشحذ حاسته الأدبية، ويستفز كوامنه العميقة. وربما يفسر هذا وفرة النسيب في أشعار العرب. فما النسيب إلا بكاءٌ سرمدي على منازل ألفها الشاعر، ثم فارقها. وحتى البكاء على الشباب الذي قيل فيه "إن العرب ما بكتْ شيئا كما بكتْ الشبابَ"، ما هو إلا نتيجة اغتراب من طراز آخر.. اغتراب زمني حارق، وانبتاتٌ للإنسان من مرحلة عمرية فسيحة بهيجة.
والمهجر الشنقيطي كان ذا دور أساسي في البناء الثقافي والأدبي. فالشناقطة تاريخيا حولوا غربتهم إلى غربة مثمرة، جاعلين من أسفارهم فرصا لتعليم أنفسهم ومضيفيهم. والقصصُ كثيرة لا تحصى. فمحمد محمود بن التلاميد صنع نهضة لغوية في المشرق،، وابن فال الخير علّم بناتِ العراق، وأسس مدراس الزبيرـ وآبه ولد خطور كان من مؤسسي معظم الجامعات المشهورة في السعودية الآن. 
وقد لاحظت رواجا للأدب المهجري الموريتاني خاصة في العقدين الأخيرين. إذ ظهرت أقلام شابة جادة من الخليج. وأخرجت الجالية الموريتانية في الدوحة –على صغرها- أكثر من عشرة كتب في أعوام معدودات كان لها سوق كبير في العالم العربي.
ولعل عوامل مختلفة تكمن وراء نشاط المغترب الموريتاني، إضافة لما ذكرتُ آنفا.
ففي الغربة يربح الفرد مزيدا من وقته وحريته. فمجتمعنا –كما تعلمون- مبدد بارعٌ للوقت، وآكلٌ محترفٌ لساعات العمر. ولكي يندمج فيه الفرد لابد من تنازله عن معظم وقته للضرائب الاجتماعية الكثيرة. وفي الغربة يربح المرء تلك الأوقات، ويستطيع التحكم الكامل في يومياته، والوقت رأس مال الأديب.
وإذا كان المغترب الأديب يربح وقتا أو مالا أو إنتاجا أدبيا فإنه يخسر أمورا كثيرة أخرى. فقد يغيب عن أثمن اللحظات في أعمار من يحب، ويحرم من تملي لحظات الشروق والغروب حيث نشأ، وتجدب أذنُه من أنغام الوطن. والأدهى أنه إذا عاد بعد شيب أنكرته حاري مدنه، وتنكرت له مغاني بواديه. وخاطبه كل ركن من أركان قريته أو باديته بلسان مولود:
 "لا هو هو ولا الأيام أيامه!".
  * هذه خاطرة كتبتها للأحبة في مجلة الثقافة.

جمعة, 17/06/2022 - 18:58