يقتلها ويمشي في جنازتها

 ابتهال الخطيب

بعض الجرائم تلحقها تساؤلات لربما أسوأ منها هي بحد ذاتها، تساؤلات تستشف قلب الجاني وفعل المجني عليه، تساؤلات تستطلع شخوص المعنيين في الجريمة، تنظر في ماضيهم وتنبش في حاضرهم، وكأن كلاً وأياً من ذلك هو مسبب، مبرر أو حتى مفسر لعنف لا تبرير ولا تفسير له في الحيز الإنساني.
نُحرت نيرة من الوريد إلى الوريد أمام مرأى ومسمع المارة، على باب كلِّيتها، حيث لا يمكن التفكير في مكان أكثر أمناً للفتاة، لكنها نُحرت هناك، مثلها مثل الكثيرات اللواتي قتلن في الحيزات العامة، على مرأى ومسمع جموع غفيرة، جموع لربما خشيت التدخل فيما ظنوه أمراً خاصاً، أو ذُعرت من لحظة العنف فآثرت الفرار بحياتها، وكأن كل واحدة من هؤلاء الفتيات والنساء قربان يُقَدم للأقدار لترفق بالنساء، أضحية تُقَدَّم للمستقبل لعله يصبح بيئة أكثر أمناً وإنسانية تجاه من يراهم المجتمع أنصاف بشر: بشر يستحق النصف، يشعر النصف، بشر غير مشمول في اللغة، غير مرئي في المساحة العامة، بشر تابع، حتى قتله يشكل نصف جريمة، ولربما أقل.
والخصوصية هي أحد أهم المفاهيم المتسترة على القتل ولربما المشجعة عليه. بحكم الخصوصية، نسمع صراخ الجارات ولا نتدخل، نرى عنف الآباء والأمهات ولا نتدخل، نشهد فتاة ملقاة على الرصيف تنحر من الوريد إلى الوريد ولا نتدخل، فلربما هو محرم لها يؤدبها، لربما هو زوج لها ينتقم لشرفه، دائماً هناك أسباب تغل أيدينا وتفسح المجال للذكر الحمش حتى يُعمل رجولته الناقصة في ضحيته، دائماً نحن نصمت أمام «حرمة» البيوت، بيوت لا تعرف الحرام والحلال وقد انطلقت صرخات النساء منها تشق ظلمات حياة ليلها الطويل.
وعليه، فإن أحد أبسط وأهم الأسئلة العنيفة التي كثيراً ما تتردد بعد كل جريمة عنف ضد النساء، يدور حول «السبب وراء هذه الجرائم وماذا تفعل النساء ليصلن إلى هذا المصير» كما وصلني بهذه الصياغة تحديداً عبر تويتر، سؤال نستشعره نحن النساء، بأنه وكما ذكرت في تغريدتي تعليقاً على السؤال أعلاه، بألف عيار ناري ينطلق إلى صدور النساء، بألف سكين ينغرس في ظهورهن، سؤال يقتل المرأة ويمشي في جنازتها. أي علاقة ممكن أن تكون لأي فعل قامت به هذه الشابة بفعل قتلها؟ أي مسبب يمكن أن يبرر نحرها من الوريد إلى الوريد أمام المارة؟ أي سيرة شخصية لها يمكن أن تعقلن إراقة دمائها في الشارع على باب كلّيتها؟
هو قول واحد، الأسباب والحيثيات والفحوى والظروف كلها غير مهمة لفهم أبعاد الجريمة، ذلك لأنها لا يمكن أن تبررها. ربما يمكن للأسباب والحيثيات والفحوى والظروف أن تفسر دوافع الجريمة، أن توضح البعد المرضي في نفس المجرم، يمكن لها أن تبين جرائمية البرمجة المجتمعية ووقاحة الغفران الذكوري للقاتل، إلا أنها لن تفرق شيئاً في ثقل وزن الجريمة وفي بشاعة نفس منفذها وفي وقاحة دور المجتمع الذي يحتضنه ويبرر له. مرة أخرى هو قول واحد، ستبقى الجريمة بشعة وغير مبررة وحقيرة، وسيبقى كل من يجد لها عذراً ولصاحبها منفذاً وضيع مريض ولو كانت المغدور بها بائعة هوى على رؤوس الأشهاد، ولو كانت عارية، ولو كانت خائنة، ولو كانت لعوباً، ولو كانت «سيرتها على كل لسان» كما يحلو لمجتمعاتنا، التي لا تعرف الشرف إلا على أجساد النساء، توصيفها. ستبقى الجريمة وضيعة، ومنفذها حقيراً، ومسؤوليتها على المجتمع بأكمله تماماً كما لو كانت المغدور بها أماً فاضلة أو قديسة ورعة أو حاجّة كبيرة في السن. عند الحق في الحياة والأمن تتساوى كل الرؤوس، كل النساء ثمينات، كل حيواتهن لا تقدر بثمن. لذلك لن يفرق في شيء استعراض السيرة الذاتية أو توصيف المظهر الخارجي أو سرد القصة الاجتماعية، ذلك أن كل حياة لكل امرأة، وكل سلامة لكل جسد أنثوي، وكل حرية لكل إنسانة ولدت حرة، فمتى يا ترى استعبدتها أسرتها وأهلها وجيرانها والمجتمع بأكمله، وكل شعور بالأمن والحماية لكل روح نسائية مع كل نَفَس طالع ونَفَس داخل، كل ذلك وأي من ذلك أغلى من كل مفاهيم الشرف والعرض والسمعة والكرامة التي تقتل بنات جنسنا، أثمن من كل العادات والتقاليد والأعراف التي تنتهك أرواحهن وأجسادهن، وأهم من كل القراءات الدينية لكل أديان الأرض جمعاء التي تبيح أي صورة أو أي درجة من العنف ضد النساء، ولو كان ضربة خفيفة بوردة حمراء لطيفة. عسى أن تكون الفكرة واضحة، حياة «أقل امرأة»، حسب التقييمات «الفحولية» المريضة في أقل بيت بغاء في أقذر حي في أبشع مجتمع، أهم من كل الكليشيهات الأخلاقية الفارغة التي يبدو أنها لا تنطبق سوى على النساء ولا تقتل سوى النساء، عساها بس تكون وصلت.

نقلا عن القدس العربي

جمعة, 01/07/2022 - 16:10