عندما تفرض الوقائع شروطها

يحيى الكبيسي

تحدثنا في مقالات سابقة، عن مجموعة من الشروط الموضوعية التي تحكم المعادلة السياسية في العراق، والتي يحاول الجميع إنكارها علانية، على الرغم من اعترافهم في جلساتهم غير العلنية بعكس ذلك تماما! 
فقد تحدثنا عن مفوضية الانتخابات وخرافة الاستقلالية، وعن المحكمة الاتحادية العليا وتكريس فشل الدولة، وعن خرافة المعارضة، وعن خرافة الاغلبية السياسية/ الاغلبية الوطنية، وعن خرافة الكيانات العابرة للهويات الفرعية، وقلنا انه ليس ثمة بديل عن الديمقراطية التوافقية ولو بشكلها الهجين والمشوه، وأن نهاية وقت اللعبة الأمريكية المزدوجة في العراق قد انتهت، وأنه قد أصبح عمليا طرفا في سياق العقوبات الامريكية على إيران، وأخيرا تحدثنا عن دور العوامل غير السياسية، تحديدا دور السلاح والشارع في الصراع «السياسي» المفترض، وقلنا إنه ليس من خيار سوى الوصول إلى صيغة تتيح تقاسم ما تبقى من الدولة بين الفاعلين الرئيسيين المتحكمين بالسلاح والشارع، أو فتح أبواب الجحيم على مصراعيها!
اليوم، وعلى أعتاب استئناف جلسة مجلس النواب «غير المرفوعة وغير المفتوحة»، التي يفترض فيها انتخاب رئيس مجلس النواب ونائبيه، وبعد أن بدا واضحا أن أيا من الكتلتين اللتين اعلنتا نفسيهما الكتلة الأكثر عددا في جلسة مجلس النواب الأولى، لم تستطيعا إثبات حجتهما، بسبب التأويل المختلف لقرار المحكمة الاتحادية المتعلق بتفسير الكتلة الأكثر عددا. فتحالف سائرون ـ الحكمة ـ العبادي الذي يعتمد تأويل القوائم الانتخابية لم يستطع اثبات حجته، كما ان تحالف الفتح ـ دولة القانون، عجز هو الآخر عن اثبات حجته في هذا السياق! وبالتالي ليس أمام رئيس مجلس النواب القادم إلا الذهاب إلى المحكمة الاتحادية.
والجميع يعلم، وإن لم يعترف بذلك أيضا، أن المحكمة الاتحادية العليا المسيسة، لن تصدر قرارا يتعارض مع إرادة قوة فاعلة وحقيقية؛ ومتابعة وتحليل قرارات المحكمة السابقة تكشف هذه الحقيقة بجلاء! لهذا ستلتزم المحكمة الصمت، ولن تحكم لصالح أحد طرفي الصراع، بل ستترك الحوارات السياسية وحدها فرصة حل هذه المعضلة. وهي ستعتمد على عامل الزمن في تسويف أي طلب بهذا الشأن من جهة، كما يمكنها الاستناد إلى قرار سابق لها بانها غير مسؤولة عن تفسير قراراتها!
سياسيا، كان التطور الأهم في الاسبوع الماضي، إعلان تحالف سائرون، بعد غموض طال كثيرا، أنه ضد الولاية الثانية للعبادي، وهو إعلان بدا مفاجئا للبعض، على الرغم من أن تحالف سائرون، لم يعلن مطلقا، ولو ضمنيا، موقفا صريحا من الولاية الثانية طوال المدة الماضية! ثم لحق بهذا الاعلان بيان صريح من المرجع الشيعي الاعلى السيد علي السيستاني صدر يوم 10 سبتمبر/ أيلول، أشار ضمنا، إلى عدم تأييده للولاية الثانية للعبادي. هكذا باتت فرص الدكتور حيدر العبادي شبه معدومة للعودة ثانية. وهذا الواقع الجديد، سيفرض على الولايات المتحدة التفكير جديا في إعادة حساباتها في العراق، بعيدا عن التجريدات الساذجة التي بنت عليها مواقفها في العراق بشأن تشكيل الحكومة، والتي انتهت إلى فشل ذريع، مما سيضطرها للتعامل مع الوقائع على الأرض، بعيدا عن النماذج المفترضة! 
كما أن إزاحة العبادي عن الولاية الثانية ستتيح إمكانية إعادة انتاج حزب الدعوة ثانية، أي كتلة تضم العبادي والمالكي معا، لضمان استمرار نفوذه وتأثيره السياسي، واستمرار الدولة العميقة التي عمل على تأسيسها طوال السنوات الماضية. أي أن العصبية الحزبية ستفعل فعلها هذه المرة، خوفا من عملية اقصاء واسعة يمكن أن يتعرض لها أعضاء الحزب الذين هيمنوا على الدولة خلال السنوات الاثنتي عشرة الماضية، خاصة في ظل شعار «لا دعوة بعد اليوم» الذي يتداوله الجميع.
التطور الثاني كان إعادة المحاولة لإنتاج تحالف يضم سائرون والفتح، بعد فشل المحاولة الاولى التي أعقبت الإعلان عن نتائج الانتخابات. فالجميع يعلم أن لا إمكانية لتشكيل حكومة من دون مشاركة سائرون والفتح فيها. وكان الخلاف الرئيسي هو حول الكتلة التي ستتحكم بهذه الحكومة. فالفتح ودولة القانون، ومن خلفهما إيران، كانا يريدان تشكيل كتلة أكثر عددا تضمن أن يأتي رئيس الوزراء من خلالها، وبالتالي تكون هي عماد هذه الحكومة، في المقابل كان تحالف العبادي وسائرون، ومن خلفهما الولايات المتحدة الأمريكية، يفكر بالاستراتيجية نفسها، لكن الجميع، بما فيها الولايات المتحدة وإيران، على يقين بأنه لا يمكن تشكيل حكومة حقيقية من دون وجودهما معا. وقد عجلت ازاحة العبادي من سباق الترشيح لأول مرة، وبشكل عملي، إعادة انتاج هكذا تحالف بين سائرون والفتح، وطبعا لا إمكانية لإقصاء حزب الدعوة من هكذا معادلة، وذلك من خلال ترتيب شبيه بترتيب العام 2014، أي تحييد كلا من المالكي والعبادي معا! وفي إطار هذه المعادلة ليس من خيار امام الحكمة سوى الالتحاق، فخرافة المعارضة يمكن أن تنجح كشعار وبروباغندا، ولكن لا مكان لها في النظام السياسي العراقي.
هذان التطوران سيفرضان على الجميع إعادة حساباتهم، وتحالفاتهم، التي حكمها الاستقطاب الذي كان قائما بين سائرون وحلفائها، والفتح وحلفائها، كما سيجعل الجميع يحتكمون إلى القواعد نفسها التي حكمت تشكيل الحكومات الثلاث السابقة في الاعوام 2006 و2010 و2014. وهذا بدوره سيفرض على الفاعلين الرئيسيين في العراق، الولايات المتحدة وإيران، القبول بما تفرضه الوقائع على الأرض بعيدا عن التجريد الامريكي، والعقائدية الايرانية!

القد س العربي

جمعة, 14/09/2018 - 09:20