أن تكون فلسطينيًا محبًا للسفر سواء للعمل أو السياحة أو التعلم أو حتى زيارة أقاربك، يعني أنك لا بد وأن تمر بجسر «الملك حسين» الأردني -الذي يطلق عليه الفلسطينيون (معبر الكرامة) بينما يطلق عليه الاحتلال (ألنبي)- ولا مفر من أنك ستضطر إلى الانتظار لساعات طويلة بل قد يصل الأمر إلى أيام طوال وسط حر شديد في الصيف وبرد قارس في الشتاء، ولعلك قد تتساءل لماذا عليك تحمل كل هذه المشقة؟ فالسفر بحد ذاته مشقة، لكن كونك فلسطينيًا ستكون مشقة السفر مضاعفة، لأنك حتى تصل إلى مطار «الملكة علياء» الأردني، المنفذ الوحيد للفلسطينيين للخروج إلى العالم الخارجي، لا بد وأن تمر إجباريًا بجسر «الملك حسين» الذي يمر به حوالي مليونين و600 ألف مسافر فلسطيني سنويًا، وفق تقديرات البنك الدولي.
ومع غياب البديل، اعتمد الاحتلال على معاناة الفلسطينيين أثناء مرورهم بجسر «الملك حسين» لا سيما بعد تداول فيديوهات في تموز/يوليو وثَّقت تلك المعاناة في أبهى صورها، فقدمت الحكومة الإسرائيلية مطار «رامون» (تمناع) الإسرائيلي كبديل أرخص وأسهل للفلسطينيين بدلًا من معاناتهم في جسر «الملك حسين»، وبالفعل في 22 آب/أغسطس الماضي، سافر حوالي 40 فلسطينيًا في أول رحلة للفلسطينيين تمر عبر المطار الإسرائيلي على متن طائرة تابعة لشركة «أركيع» الإسرائيلية، والتي غادرت مطار «رامون» متوجهة إلى مدينة «لارنكا» القبرصية. لكن لم تمر هذه الرحلة مرور الكرام، إذ شهدت جدلًا كبيرًا ما زال مستمرًا حتى الآن لا سيما بين الرأي العام الفلسطيني والأردني، ما بين مؤيد ومعارض وسط رفض من السلطة الفلسطينية وتحذير للفلسطينيين من اللجوء إلى مطار «رامون». فلماذا لا يجب السفر عبر «رامون»؟
تطبيع على حساب القضية
يتخذ أحد أهم وأبرز الأسباب لرفض الفلسطينيين السفر عبر «رامون» بعدًا سياسيًا؛ إذ إن قبول السفر والمرور عبر هذا المطار الإسرائيلي يعني التطبيع ضمنيًا مع الاحتلال وقبول وجوده بشكل طبيعي، وهو ما تسعى «إسرائيل» للحصول عليه، منذ تأسيسها. كما أن هذا القبول سيجبر الفلسطينيين على التنازل عن ملاحقة «إسرائيل» بالمحكمة الجنائية الدولية في «لاهاي»، على خلفية ارتكابهم جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية. وقبول الفلسطينيين أيضًا بمطار «رامون» سيجعل حلم السلطة الفلسطينية باستعادة مطار «القدس» الدولي (قلنديا) بعيد المنال.
مكسب للعدو الإسرائيلي
سماح دولة الاحتلال بفتح مطار «رامون» أمام الفلسطينيين، لم يأتِ نتيجة لتعاطف الاحتلال مع الفلسطينيين المنتظرين في الطوابير الطويلة والمرهقة تحت الشمس الحارقة في جسر «الملك حسين»، وإنما جاء لسبب اقتصادي وسعي إسرائيلي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من مطار كلف الاحتلال نحو 500 مليون دولار لبنائه، ومقام على مساحة تصل إلى نحو 14 مليون متر مربع، ويقع المطار بالقرب من مدينة «إيلات» الإسرائيلية، وقد افتُتح في عام 2019، وصُمم لاستقبال أية رحلات تغير وجهتها من مطار «بن غوريون» الدولي، وعلى الرغم من أنه ثاني أكبر مطار في «إسرائيل» بعد مطار «بن غوريون»، إلا أن الإسرائيليين يرفضون السفر من خلاله بسبب بعده نحو 300 كيلومتر عن مدينة «القدس» المحتلة. لذا تحتاج إسرائيل تعويض تلك الخسارة من خلال السماح للفلسطينيين بالسفر عبر هذا المطار بدلًا من جسر «الملك حسين» خاصة وأن استخدام مئات آلاف الفلسطينيين لهذا المطار سيؤدي إلى إعادة تنشيطه، وتوظيف مئات الإسرائيليين من موظفي الجمارك وسلطات المعابر والأجهزة الأمنية وعمال النظافة، وإحياء السوق الحرة.
كما أن استخدام الفلسطينيين لهذا المطار سيساهم في تحسين صورة «إسرائيل» وتصويرها في صورة المنقذ، الذي يتعاطف ويسعى لتسهيل حركة التنقل والسفر للشعب الفلسطيني، ومن ثم غض الطرف عن مماطلة الاحتلال في مساعدة الأردن في تطوير جسر «الملك حسين». لذا من مصلحة إسرائيل الترويج بتسهيلات في التنقل، وانخفاض في أسعار الرحلات المنطلقة من مطار «رامون»، مقارنة بمطارات أخرى.
خسارة للحليف الأردني
يعتبر الأردن أكبر خاسر في حالة تلبية الفلسطينيين لدعوة «إسرائيل» ولجوئهم إلى «رامون»، ففي هذه الحالة سيشهد قطاع الاقتصاد والنقل والخدمات ومكاتب السياحة والسفر في الأردن خسارة فادحة، بالإضافة إلى انخفاض إيرادات الحكومة من الضرائب ورسوم تجديد وإصدار الجوازات والوثائق الأخرى وإقامة الفلسطينيين في الأردن أثناء ذهابهم وعودتهم، فمرور ما بين 2,5 إلى 3 ملايين مسافر فلسطيني سنويًا عبر الجسر الأردني يدر عوائد ضخمة لخزينة المملكة الهاشمية تصل إلى ما يُقارب مليار دولار كعائدات مالية ما بين رسوم وأجور وتشغيل لقطاعات عديدة. فضلًا عن اعتماد شركات السياحة والسفر الأردنية بشكل كبير على المسافرين الفلسطينيين، الذين يشكلون ما بين 40 إلى 50 بالمئة من حجم عمل تلك الشركات، بجانب نمو حركة التجارة بين الأردن وفلسطين، وارتفاع تجارة «الترانزيت» نحو 550 بالمئة العام الجاري عن معدلاتها للعام الماضي، وفق ما ذكره «ضيف الله أبو عاقولة» رئيس نقابة أصحاب شركات التخليص ونقل البضائع.
خفض التعاطف مع الفلسطينيين
لجوء الفلسطينيين إلى مطار العدو سيزيد من سخط الرأي العام العربي ولا سيما الأردني مما سيقلل التعاطف مع الشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية أيضًا، وبالفعل حدث ذلك حينما أقلعت الرحلة الأولي للفلسطينيين من «رامون»، في آب/أغسطس الماضي، إذ عبَّر الأردنيون، عبر مواقع التواصل الاجتماعي عن غضبهم من هذه الرحلة ووصل الأمر إلى اقتراح بعض الأردنيين من بينهم النائب «خليل عطية» على الحكومة الأردنية منع دخول أي فلسطيني استخدم سابقًا مطار «رامون» إلى الأردن، ووقف التعامل معه، وإغلاق شركات السياحة والسفر التي تتعامل مع هذا المطار الإسرائيلي بشكل نهائي.
تعجيزات إسرائيلية
يسعى الأردن منذ سنوات لتحسين وتطوير جسر «الملك حسين»، الذي يبدأ في العمل من 8 صباحًا، في ظل بنية تحتية متهالكة، ولتحقيق هذا الهدف أجرى الأردن منذ فترة طويلة محادثات مع إسرائيل والسلطة الوطنية الفلسطينية من أجل زيادة ساعات العمل للجسر بحيث يعمل 24 ساعة. لكن دائمًا ما تلقي عمَّان باللوم على حكومة الاحتلال واتهامها بالعمل ببطء والسماح يوميًا بدخول 80 حافلة فقط -وهو عدد قليل جدًا، مما يتسبب في اكتظاظ الفلسطينيين عند مدخل الجسر.
وعلى الجانب الآخر، يتجاهل الاحتلال وجود أطفال ومرضى وكبار سن لا يتحملون الجلوس طويلًا، وسط استمرار استفزازات الاحتلال بتأخير الحافلات أو إرجاع البعض أو اعتقالهم، وربما قتلهم بإطلاق الرصاص مثل حادثة استشهاد القاضي «رائد زعيتر»، في آذار/مارس 2014، بخمس رصاصات، عند جسر «الملك حسين».
تسليم مطار «قلنديا»
في تشرين الثاني/نوفمبر 2021، طرح وزير التعاون الإقليمي في الحكومة الإسرائيلية «عيساوي فريج» منح الفلسطينيين جزءًا من مطار «القدس» الدولي (قلنديا) الواقع بين مدينتي «رام الله» و«القدس» كجزء من مشروع الحفاظ على حل الدولتين لتسهيل سفر الفلسطينيين عبر الخطوط الجوية الإسرائيلية، ولكن لأسباب سياسية وأمنية أوقفت حكومة الاحتلال هذا المشروع.
ووفق قواعد القانون الدولي، هناك استحقاقات تعطي لفلسطين الحق بتشغيل مطار «قلنديا»، وإعادة إعمار مطار «غزة» الدولي، الذي دمرته «إسرائيل» في انتفاضة الأقصى، التي بدأت عام 2000، والسماح بإنشاء مطار جديد في الضفة الغربية، على أن تدار جميعها من قبل الفلسطينيين، فضلًا عن تخفيف القيود الإسرائيلية على السفر عبر «معبر الكرامة» مع الأردن.
حلول قد تلجأ إليها الأردن
في 31 آب/أغسطس الماضي، أعلن وزير النقل الأردني «وجيه عزايزة» أن بلاده ستخصص حوالي 211 مليون دولار لتطوير جسر «الملك حسين»، بهدف تسهيل حركة السفر وتبديد المعوقات التي يعانيها المسافرون الفلسطينيون، مؤكدًا حرص حكومته على تسهيل إجراءات سفرهم عبر الجسر ومن ثم مطار الملكة «علياء الدولي».
لا شك أن الأردن يرفض رفضًا قاطعًا مطار «رامون» الإسرائيلي، كما أنه سبق وأن قدمت المملكة اعتراضًا رسميًا على تشغيله لدى منظمة الطيران الدولية مرتين، الأولى عام 2013، والثانية عام 2019، وبالفعل أسفر ذلك عن إلغاء الرحلات الجوية الدولية من المطار. وفي وقت سابق، كان قد اقترح وزير الداخلية الأردني «مازن الفراية» حلولًا لتطوير جسر «الملك حسين» من بينها الحجز المسبق لتجنب تكرار مثل هذا الازدحام مستقبلًا.
من جانبه، أكد وزير النقل والمواصلات الفلسطيني «عاصم سالم»، أنه سيتم فتح المعبر للمسافرين على مدار 24 ساعة بدءًا من تشرين الأول/أكتوبر المقبل ضمن تفاهمات مع الجانبين الأردني والإسرائيلي، مضيفًا أن الأردن يعمل على إنشاء معبر دولي كامل وجديد للفلسطينيين، على أن يتم البدء في إنشاءه في 2023، والانتهاء منه في 2025. ومن المقرر أنه ستقوم فكرة المشروع الجديد على فصل حركة الركاب عن الشحن كليًا، بتخصيص مبانٍ للمسافرين (قادمين ومغادرين) ومواقف للسيارات ومبانٍ وساحات للشاحنات (استيراد وتصدير)، وهو ما سيؤدي إلى تعزيز حركة التبادل التجاري وتخفيض زمن الانتظار والتفتيش للركاب والشحن على حد سواء.
خلاصة القول، ينص الإعلان العالمي لحقوق الانسان، على أنه من حق المواطن أن يغادر دولته وأن يعود إليها في أي وقت، وذلك وفق المادة (13) منه، والتي تنص على أنه «لكل فرد حرية التنقل واختيار محل إقامته داخل حدود كل دولة»، لكن يتضح أن الفلسطيني ليس من بين هؤلاء الأفراد الذين يحق لهم السفر أينما يشاء وقتما يشاء. بل يُقيد سفر الفلسطينيين بأوامر حكومة الاحتلال، التي تستغل معاناة الشعب الفلسطيني بأقصى درجة تحقق لها أكبر ربح مادي. لذا إذا لم يسرع الأردن في اتخاذ إجراءات لتحسين جسر «الملك حسين» وتوفير ظروف آدمية للمسافرين الفلسطينيين، فسيجني الأردن خسارة مؤلمة كما أن لجوء الفلسطينيين للمطار الإسرائيلي سيقلص التعاطف مع الشعب الفلسطيني وسيزيد من تشديد الاحتلال لقيوده على الفلسطينيين. لذا على الأردن الإسراع في تنفيذ وعودها بتحسين الجسر وعلى الشعب الفلسطيني رفض الإغراءات الإسرائيلية حتى لا يخسر قضيته.
نقلا عن رأي اليوم