لم ارفع قلما للكتابة من اليمين الى اليسار، منذ حوالي عشرين عاما، منذ بدايتي في الكتابة بالعربية في مجلة سينما للمرحوم الصحفي القدير، قصي صالح درويش، رحمه الله.
ولأنني شعرت بنوع من العجز أحيانا في تحسيس العائلة و الأصدقاء حول القضية المناخية عند بداية مشواري في هذا المجال،أيام لم يكن يعم الموضوع القنوات التلفزيونية أو صفحات الجرائد، قصَرت في المساهمة في إشعار قرائي بأهمية الأمر، بالرغم من أن أولى مهامي في هذا المجال تحسيس رجال الإعلام (و نسائهم…).
من البداية، رأيت في الموضوع، بداية النهاية. ولا أقصد هنا نهاية العالم أو نهاية البشرية كما يروج له أحيانا، بدأ من عمنا ڨوتيريز، الأمين العام للأمم المتحدة، بل نهاية عالم ابتدأ منذ حوالي قرنين. عند أول انتقال طاقوي و الخروج من استعمال قوة الرياح للتنقل أو قوة الأنهار أو الحيوانات للعمل الميكانيكي البدائي الى المحرك البخاري المستهلك للخشب و الفحم عند أولى الثورات الصناعية.
ad
وفي بداية القرن العشرين، كانت الحرب العالمية الأولى على حد تعبير العديد من المؤرخين ، الحرب الميكانيكية الأولى أين حل المحرك الحراري المستهلك لوقود سائل مرتفع الطاقة واستبدل ونستون تشرشل الفحم بزيت الوقود على متن سفن البحرية الملكية.
وعم المحرك الحراري عبر السيارة و غيره من المحركات الكهربائية عبر الأدوات الكهرومنزلية عند ازدهار مجتمع الاستهلاك في الولايات المتحدة ثم أوروبا و أصبح عندها النفط الطاقة الأساسية للثورة الصناعية الثانية.
ووصل العالم إلى ذروة الاختلال في السبعينيات، مع أولى أزمات الطاقة، أول وعكة لثلاثين سنة من النمو و التطور و الازدهار عرفها الغرب أساسا، و باقي العالم إلى حد ما.
شاهدت عبر السنين تحول القضية المناخية من قضية بيئية تخص جيلا قادما من سكان الأرض إلى قضية سياسية دولية (جيوسياسية) تخص أجيال الحالية منها والقادمة و تتصدر الأجندات الدولية بجانب القضايا الأمنية و القضايا الطاقوية أو الاقتصادية و عن جدارة. بحيث اشتد التنافس الإقليمي و الصراع الدولي حول الريادة العالمية والقيادة القارية في هذا الملف تحسبا للمرحلة القادمة و التي نرى بوادرها في الأزمة العالمية الحالية. و هذا طبعا بحكم الارتباط العميق بين التغير المناخي و النمط الاقتصادي السائد و تفرعاته في مجال الموارد الطبيعية و الطاقة بشكل خاص و انعكاسات الخيارات الطاقوية على قطاع النقل و الصناعة إلى غيره من القطاعات الاقتصادية الشديدة الاستهلاك للطاقة و الشديدة الإنبعاثات الكربونية.
فكيف لا أتذكر إنذار الجزائر باسم دول عدم الانحياز السبعين والذي حذر من عواقب هذا النمط الاقتصادي في خطاب الرئيس الجزائري هواري بومدين الشهير الذي أشار بدقة إلى المشكلة الجوهرية، على غرار الأزمة المناخية.
و على عكس الخطاب السائد، فالمشكلة الجوهرية لازالت وستظل تكمن في النمط الاقتصادي المهيمن و الموروث من الفلسفة الاستعمارية والذي يجعل من الدول الجنوبية سوقا للمواد الأولية للبلدان المصنعة و سوقا تبيع فيه ما تصنعه هاته البلدان بأضعاف ما كلفها.
في ذلك الخطاب حذر من أن هذا الاختلال في التوازن و التبعية المفبركة التي تحرم البلدان من استقلال تام و عمليات الاختراق التي تكسر طموحات الشعوب في حرية كاملة، لا بد وأن يأتي يوم و تدفع هاته الامبريالية ثمنها، على الأقل كما مع جرى مع الاستعمار أين كل مستعمر وجد عنده الملايين من المهاجرين من أفريقيا و أسيا.
و ها نحن ألان وبعد اكثر من أربعين سنة، و شبح اللاجئين المناخيين أصبح مخيفا أكثر من وحش “التطرف الإسلامي”، و واقع يجعل الغرب يتحفز أكثر، على الأقل مبدئيا، في التفكير في مساعدة بلدان الجنوب. لكن، و ككل مرة، تعطلت النوايا، .بسبب الأزمة الطاقوية ، و قبلها بسبب كورونا، و قبلها بسبب الأزمة الاقتصادية.
من هنا تأتي أهمية إشعار القارئ العربي بمدى أهمية العلاقة بين المناخ و الطاقة و النمط الاقتصادي و منه الأهمية السياسية للقضية و تفرعها و تغلغلها في كل القطاعات بدون استثناء إلى حد قضايا تصفيات الاستعمار الباقية مرورا بالخريطة الجيوسياسية الجديدة.
فها أنا ألان انفض الغبار على لغتي الأم لأراجع أساسيات القضية وأشاطر ما أعرفه و ما أعتقد به و ما أحسه في هذا الشأن.
و ربما كان الحافز الأول هو إقامة قمتين في بلدان عربية، قمة شرم الشيخ 27COP التي أقيمت في مصر و القمة التي ستليها العام المقبل COP 28 و التي ستكون في بلد عربي اسياوي و هو الإمارات العربية المتحدة.
ولا يفوتني طبعا أن أشير إلى قمة الجزائر و التي نجحت على الأقل في إحياء المشروع العربي.
فالمشرق والمغرب العربيين، من الأقاليم التي ستصطدم بشدة بالتغير المناخي، بحيث ستشتد الأزمات البيئية التي تعرفها أصلا المنطقة كجفاف الأرض و التصحر و ندرة المياه. هذه بعض الانعكاسات المباشرة لارتفاع متوسط درجات الحرارة المتواصل والتي ستخلق سلسلة من التداعيات الغير المباشرة على الأمن الغذائي و الأمن الصحي ناهيك عن تفاقم أللأحوال الجوية القاسية و التي تحدث فيضانات وحرائق غابات بأشكال و أحجام غير مسبوقة الذي سيهدد الأشخاص و المؤسسات و البنى التحتية الى غاية الأنظمة.
وفي نفس الوقت العالم العربي مهدد في ما يشكل أهم مداخيله و هو إنتاج الطاقة “الأحفورية الهيدروكربونية”. هنا أقف لحظة عند المصطلحات لأشير إلى الاختراق الفكري الناتج عن تبعية لغوية و تخلف علمي. بما أن النفط أو البترول و الغاز و الفحم ليسوا بالغرباء على العالم العربي،فمتى و لماذا و كيف ابتدأنا في استعمال هذه التسميات الجديدة في اللغة العامة.
فمن جهة يصعب عدم تفهم هرولة بعض الدول المنتجة للنفط نحو الحيادية الكربونية للاندماج الكامل في الحقبة الأنثروبوسينية و في عصر يرى في التغير المناخي أسمى الأخطار التي تحلق بالإنسانية مسنودا بالعالم الإعلامي اليوم الفائض بصور الفيضانات، و الملتهب بصور الحرائق المهولة، والشاسع بصور الجفاف. لكن قوانين الفيزياء لا يمكن التفاوض معها، ولا يمكن تجنيدها، و لا حتى ارتشاءها.
هاته الهرولة نفسها التي رمت بأوروبا في الازمة الطاقوية، و ليس بوتين و ساعود إليها لاحقا.
في قمة الأطراف السابقة في طبعتها ال 26 في غلاسكو أعترف أنني أصبت بخيبة أمل عندما شاهدت غياب الجزائر فوق خريطة التزامات الحيادية الكربونية (بمعنى مقدرة أي دولة لامتصاص كل الكربون المنتج من نشاطها الاقتصادي من خلال خزانات الكربون كالغابات)،و لاحظت متحسرا انقسام الموقف الإفريقي بعدما كان يؤول إلى التوحد في قمم مضت و على رأسها القمة ال15 قمة كوبنهاجن سنة 2009 أين حرصت الجزائر على توحيد الصفوف الإفريقية حول موقف متزن و متوازن بين التضامن الإفريقي للعالم فيما يشبه أكبر التحديات على الصعيد الإنساني و من جهة أخرى التذكير بمسؤولية البلدان المصنعة في خلق الأزمة المناخية و قبلها بمسؤوليتها في عدم تمويل صناديق المساعدة الإنمائية أو النقل التكنولوجي.
وكالعادة عندما تأثر مشاعري عن تحاليلي،لم أرى في موقف الجزائر موقف متوافق مع معظم البلدان العربية الأخرى. فما عدا المملكة السعودية، لبنان، موريتانيا، السودان و الإمارات العربية المتحدة التي التزمت بالحيادية الكربونية،توافقت الدول العربية الأخرى عن عدم الالتزام الزمني بالحيادية الكربونية.
ومن هنا أقل ما يمكن قوله،هو أن أهمية الملف المناخي تكمن في خلق خرائط سياسية جديدة كما جاء في إعلان قمة الجزائر العربية، فالعالم العربي يدرك حاجته في “تعزيز القدرات العربية الجماعية في مجال الاستجابة للتحديات المطروحة على الأمن الغذائي والصحي والطاقوي ومواجهة التغيرات المناخية”، لكنه لم يدرك بعد أن هاته الأخيرة ستغير من طبيعة التحديات المذكورة. (يتبع)
مستشار في شؤون الطاقة والمناخ
خريج جامعة هواري بو مدين للتكنولوجيا بالجزائر
المعهد الفرنسي للبترول – باريس
نقلا عن رأي اليوم