الرأسمالية العمياء ..

يسلم ولد محمدو عبدي

لاشك أن العالم اليوم يشهد الكثير من التغيرات الاجتماعية والثقافية لصالح العلاقات الاقتصادية المادية التي تحاول بشتى الطرق إحلال المنظومة المادية وطمس نظيرتها الاجتماعية من أجل مجتمع واحد أو كما يطلق عليه القرية الواحدة.
يعتبر المجتمع هو الحاضنة الأساسية للفرد ومنبع لضبط سلوكه وتصرفاته وذلك بترسيخ ثقافته الاجتماعية والاقتصادية لكي لايخرج عن اطارها، فيحافظ عليها هو بدوره لتبقى النظم الاجتماعية راسخة في أذهان الأفراد تعبر عن مدى تماسك النظام الاجتماعي ومدى فاعليته.

لاشك أن إنتشار الفقر في المجتمعات وفشل المنظومات التعليمية والمؤسسات الإدارية طريق تمهد إلى الرأسمالية العمياء بطريقة لاشعورية  للأفراد، إذ تغيب فيها الذات الاجتماعية والحضارية وكذلك الأخلاقية لتسيطر المادة على العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية فتزيحها بشكل تدريجي ليتبنى المجتمع ثقافة المنفعة المادية المتوحشة على حساب القيم الاجتماعية والاقتصادية ..
وما أقصده هنا بالرأسمالية العمياء هو عندما يتخلي الأفراد عن قيمهم الاجتماعية والثقافية في مواجتهم للعالم المادي بحيث تزيح الرأسمالية كل المعايير الاجتماعية والثقافية لتحل محلها المنفعة الاقتصادية على حساب الذات الاجتماعية، هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن الأفراد لم يهيأوا أصلا لا اجتماعيا ولا معرفيا لهذه المرحلة التي تعتبر مرحلة انتقالية بل ومسار تحول في مسارهم الاجتماعي والثقافي.

إن ترسيخ ثقافة الفردية لدى الانسان التي تنبع من فكر اقتصادي مادي بالإضافة إلى فكرة البطل الخارق التي تلعب دورها في حياة الأفراد بشكل يومي، بمعنى أن الأفراد الذين يولدون في مجتمعات  فقيرة يحلمون أن يكونوا أبطالا خارقين، معيارا لشخصية البطل ولا عجب أن يكون ذلك البطل بمعايير اقتصادية بحيث يستطيع أن يوجه المجتمع ليتصرفوا وفقا للسلطة الاقتصادية وما تمليه عليهم آليات السوق.
إن الأفراد الذين يعيشون في بيئة اجتماعية فقيرة جل تفكيرهم ينصب في المال، فكرة المادية النفعية.. ولا يوجد عيب في ذلك لكن الإشكالية هي في ذلك الجهل بالقيم والموروث الاجتماعي الذي يخيم على الانسان عندما يخرج عن نطاقه الاجتماعي، إذ يصبح قالبا فارغا يمتلئ بما يدخل في إطار المادة فحسب.
ومن هنا تضيع جوهرة ثمينة ضحيتها المجتمع الذي لم يستطع أن يحصن أفراده في مواجهة العوالم المادية الخارجية.
إن الأفراد الذين استطاعوا أن يهاجروا بحثا عن المادة في دول أجنبية يطغى عليهم الطابع المادي بحيث ينسلخون من عاداتهم وتقاليدهم شيئا فشيئا إلا من رحم ربك.
لايمكن أن نغفل عن أن استيراد الأفكار والممارسات الاجتماعية المكتسبة خارج نطاقنا الجغرافي  كما استيراد السلع يكمن في دائرة الإستهلاك، وهذه الأفكار التي يتم استيرادها خطيرة جدا بحيث تضع قيمنا الاجتماعية في خطر الزوال نتيجة لهذه الأفكار والممارسات المكتسبة.
وهذه الممارسات الدخيلة لا يلقى عليها الفرد ردة فعل من المجتمع لأن القيمة الآن عند المجتمع تغيرت لم تعد اجتماعية بقدر ماصارت اقتصادية.
فيصبح الفرد في قطيعة مع القيم الاجتماعية الموروثة وفي صراع تام مع العادات والتقاليد والنظم الاجتماعية فندخل في نظام جديد من التفاهة كما يطلق عليه الفيلسوف والمحاضر في علم الاجتماع الكندي آلان دونو، حيث تتحكم في المجتمع عقول فارغة تضع قوانينه في إطار مادي.
حينها يستطيع الفرد أن يبدأ بتغيير عقلية المجتمع فيبدأ من وسطه الاجتماعي الضيق إلى أن يصل إلى أبعد من ذلك حسب ما تمليه عليه المادة.
والمشكلة الكبرى هي أن المجتمع يبرر له هذه الأفعال لأنه يمتلك المادة التي تعتبر أداة للتغيير لايمكن مواجهتها إلا بالمادة ولاشك أن الرابح هو المادية النفعية التي ترجح كفتها في هذا الصراع.
تلك القيم المادية التي اكتسبها الفرد من الخارج تسخر له العادات والتقاليد على طبق من ذهب، بحيث يصبح كل شيء تحت تصرفه بما في ذلك القيم الاجتماعية، فهي إهداء من المجتمع له وطمعا في ما عنده.
لكن لاننسى أن التحصيل المادي من غير تحصين اجتماعي، بمعنى التمسك بثقافة المجتمع الأصل مع الأخذ بعين الاعتبار الصراع الدائم بينها وبين ثقافة المجتمع المكتسب ماديا التي تحارب ثقافة المجتمعات ككل بلا معايير اجتماعية أو أخلاقية أو دينية.
ينعكس هذا الصراع سلبا على المجتمع من حيث العادات والتقاليد السوسيوثقافية والقيم الاجتماعية السائدة فيه بمعنى أن الفرد الذي يولي اهتمامه  للقيم المادية  فقط يفقد جزءا كبيرا من ثقافة مجتمعه ويساهم في طمسها بشكل تدريجي ..

هذا بالإضافة إلى أن إنهيار المنظومة التعليمية يفتح الباب بشكل أساسي للرأسمالية المتوحشة العمياء وهي الخطيرة جدا بحيث لاتحكمها ضوابط ولا معايير أخلاقية ولا دينية لأنها في وضعيتها هذه مبهمة، مظلمة، الداخل في نطاقها يحتاج إلى مصباح قبل النزول في القاع وذلك المصباح لم يحصل عليه أصلا، لا عن طريق التمسك بالقيم الاجتماعية، ولا عن طريق التعليم.
هذا مع العلم أن الرأسمالية كنظام اقتصادي مادي يقوم على مبادئ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.. يحمل في طياته فكرا ايديولوجيا يؤمن به الأفراد الماديون كعقيدة اقتصادية عكس الرأسمالية العمياء التي سببها الفقر وفساد المنظومات التعليمية والاقتصادية وغيرها بحيث يجد الفرد ذاته في قالب مادي لايستطيع الخروج منه لأنه دخل هذا القالب من غير وعي به أصلا.
هذه تعتبر كارثة حقيقية لأن المجتمع من هذه الناحية يبدأ الانسلاخ من ثقافته الاجتماعية من غير وعي وادراك بعاقبة هذه الطريق المسدودة اجتماعيا وأخلاقيا.
إن الإنسان بهذا المفهوم ( الرأسمالية العمياء ) المادي لايؤمن إلا بما يدور في ذهنه على حساب المجتمع والقيم الاجتماعية فالمادة تساعده من غير وعي على طمس هويته الاجتماعية والثقافية.
وفي ظل هذه الظروف المادية يقول  نيلز بور بتهكم " التنبؤ أمر صعب، وخاصة حول المستقبل"  لأن هذه الظرفية بالذات أصبح التنبؤ بمستقبل قيمنا الثقافية والاجتماعية أمرا يثير الكثير من الإشكاليات، بل ويفتح الباب نحو عالم بلا ضوابط اجتماعية ولا أخلاقية، عالم تحكمه المادة فحسب  " والحقيقة أننا نشهد تدمير منظومة القيم والأخلاق لصالح تحقيق المكسب المالي، فيصبح هو القاعدة الرئيسية لمنظومة الأخلاق التي تحكم "  المعاملات مع الآخرين، فتغيب الذات الاجتماعية والأخلاقية حسب موروثنا الاجتماعي والثقافي.
بمعنى أن القوة الاقتصادية أداة للتغيير، لتغيير المسلكيات الاجتماعية لحساب المادة.
لكن عندما تكون المادة في أيدي أفراد يتمسكون بقيمهم الاجتماعية والثقافية فهذا ينصب في صالح المجتمع لأن لا خوف على ثقافة المجتمع من بعد ذلك ولاخوف من الرأسمالية العمياء لأنها بهذا الشكل أصبحت مبصرة.

خميس, 17/11/2022 - 11:11