ماذا وراء تخلي الصين عن سياسة “صفر كوفيد”؟

 تمارا برّو

عاد تفشي فيروس كورونا المستجدّ في الصين إلى الواجهة مجدداً وراح العالم وهو يشاهد صور المصابين بالفيروس يستذكر صور المرضى في مدينة ووهان عندما بدأ تفشي الفيروس في آواخر العام 2019 . فبعد 3 سنوات من العزلة والإغلاق واتباع سياسة” صفر كوفيد” أقدمت الصين بداية شهر ديسمبر/ كانون الأول الجاري على التخلي عن هذه السياسة الصارمة التي تقوم على إجراء اختبارات جماعية وعزل المرضى في مرافق حكومية وتنفيذ إغلاقات جزئية ، وأحياناً تفرضها على مدن أو مقاطعات بأكملها مما أبقى ملايين الأشخاص في منازلهم، كما أوقفت بكين مؤخراً نشر الأعداد اليومية لمصابي كوفيد 19، وأعلنت انتهاء الحجر الصحي الإجباري عند دخول أراضيها، اعتباراً من 8 كانون الثاني/ يناير والاكتفاء بتقديم اختبار سلبي في غضون 48 ساعة، وأعلنت أيضاً عن استئناف إصدار تأشيرات وجوازات السفر. وأدى إلغاء سياسة ” صفر كوفيد” إلى ارتفاع رهيب في أعداد المصابين بالفيروس واكتظت المستشفيات بالمصابين بالحمى وصعوبة التنفس ، ونقلت صحف غربية عن نائب مدير المركز الصيني لمكافحة الأمراض والوقاية منها أن 250 مليون شخص أصيبوا في الصين منذ الأول من كانون الأول / ديسمبر إلى 20 ديسمبر أي ما يعادل 18% من إجمالي السكان ، وأيضاً ازدادت نسبة الوفيات لاسيما بين كبار السن.
ومع ارتفاع أعداد المصابين بالفيروس ساد الخوف من إعادة تفشيه عالمياً كما حصل في العام 2020، لذلك فرضت عدة دول من بينها الولايات المتحدة الأميركية واليابان والهند وإيطاليا فحوص كوفيد إلزامية على المسافرين القادمين من الصين. بالمقابل رأت وكالة الصحة التابعة للاتحاد الأوروبي بأن فرض هذه الفحوصات غير مبرر، وبأنها لا تعتقد أن ارتفاع عدد الاصابات في الصين سيؤثر على الوضع الوبائي في الاتحاد الأوروبي نظراً لاكتساب المناعة السكانية، فضلاً عن أنه سبق أن ظهرت وتبدلت لاحقاً المتحورات المنتشرة حالياً في الصين. وشكل تفشي الوباء مادة دسمة للإعلام الغربي لإخافة دول العالم من الصين بسبب الانتشار السريع للفيروس فيها وإمكانية إعادة انتشاره في العالم على غرار ما حصل في العام 2020، وفي هذا الإطار انتقدت بكين “المبالغة والتشهير والتلاعب السياسي” من قبل وسائل الإعلام الغربية في ما يتعلق باستجابتها لتفشي كوفيد-19، وقال المتحدث باسم الخارجية الصينية وانغ وينبين “حاليًا، الوضع الوبائي في الصين يمكن التنبؤ به ولا يزال تحت السيطرة”.
وإزاء الأوضاع الصحية الصعبة حثّ الرئيس الصيني شي جين بينغ المسؤولين على اتخاذ تدابير تهدف إلى حماية المواطنين، ودعت الخارجية الصينية جميع الأطراف إلى التعاون لضمان السفر الآمن للأشخاص من مختلف البلدان.

حاولت الصين لثلاث سنوات الحفاظ على أرواح أكبر عدد من الناس عبر اتباع سياسة “صفر كوفيد” ، السياسة التي أثرت سلباً على الاقتصاد الصيني إذ تعكس البيانات الرسمية لشهر نوفمبر/ تشرين الثاني الفائت مدى الضغط المتزايد على اقتصاد الصين حيث تشير إلى تراجع الصادرات والواردات بأكبر معدل منذ عدة سنوات في ظل ضعف الطلب العالمي على السلع الصينية. وكانت الحكومة الصينية قد حددت هدف النمو الاقتصادي لعام 2022 عند نحو 5.5% ، إلا أن صندوق النقد الدولي خفض توقعاته لنمو الصين إلى 3.2% هذا العام.
بالإضافة إلى التأثير السلبي لسياسة “صفر كوفيد” على الاقتصاد الصيني وسلاسل الإمداد العالمية، عجلت المظاهرات التي اندلعت مؤخراً احتجاجاً على قيود الإغلاق الصارمة وسياسة “صفر كوفيد” وطرق تنفيذها من رفع الإجراءات لسببين، الأول هو الاستجابة لمطالب المحتجين الذين أظهروا عدم قدرتهم على تحمل المزيد من الاغلاق والقيود ، إذ كان من المتوقع أن تخفف الصين من قيود كورونا بعد إعادة انتخاب الرئيس الصيني شي جين بينغ أميناً عاماً للحزب الشيوعي الصيني، ولكن مع ارتفاع أعداد المصابين، أعادت الصين فرض الاغلاق والقيود وهذا ما أثار استياء الكثيرين، لاسيما الشباب الصيني، الذي شاهد شعوب العالم بدأت تعود إلى حياتها الطبيعية، وتجلى ذلك في النسبة الكبيرة من المشجعين الذي حضروا إلى قطر لمشاهدة المونديال ودون الالتزام بإجراءات الوقاية من كورونا، بينما هم يعانون من القيود الصارمة لمواجهة الفيروس. ثانياً قلق السلطات الصينية من أن تعبث أيادي خارجية بالاحتجاجات التي من المحتمل أن تتحول إلى أعمال شغب تهدد أمن الصين على غرار ما حصل في هونغ كونغ العام 2020، وهو ما دعاها إلى الاعلان عن اتخاذ إجراءات حازمة ضد أنشطة التسلل والتخريب التي تقوم بها “قوات معادية”، وأيضاً رغبة منها في تجنب اتهام الغرب لها بانتهاك حقوق الانسان ضد المتظاهرين، وهي تعاني أصلاً من اتهامها بانتهاك حقوق مسلمي الإيغور في إقليم شينجيانغ.
إن تفشي فيروس كورونا بسرعة كبيرة بعد رفع القيود كان متوقعاً لأسباب عدة منها أن نسبة كبيرة من السكان لم يصابوا به بسبب سياسة ” صفر كوفيد” التي كانت متبعة، وبالتالي ليسوا محصنين ضده بشكل طبيعي، فضلاً عن أن نسبة التطعيم بين كبار السن منخفضة فنحو نصف الأشخاص الذين تتجاوز أعمارهم 80 عاماً تلقوا الجرعة الأولى من اللقاحات الصينية، والمعروف أن الصين بلد شائخ نتيجة سياسة الطفل الواحد التي كانت تتبعها، إذ يشكل الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاماً أو أكثر نحو 14% من أجمالي عدد السكان عام 2021.
ومن ناحية أخرى يواجه نظام الرعاية الصحية في الصين صعوبات كبيرة نظراً لعدم جهوزيته لاستقبال أعداد كبيرة من المصابين ، وترافق رفع القيود مع الشتاء حيث تكثر الاصابة بالانفلونزا.
لا يخفى القول أن الشعب الصيني لم يكن مهيئاً معنوياً وعملياً لرفع القيود الأمر الذي شكل في البداية صدمة لهم وخوفاً من الاصابة به ، إذ أنه بعد 3 سنوات من التدابير القاسية لعدم تفشي الفيروس فجأة وجد الصينيون أنفسهم أمام إلغاء القيود وتفش سريع وكبير لفيروس كورونا، ولكن تدريجياً بدأ الناس في الصين يتأقلمون على الوضع الجديد ويتعايشون مع الفيروس.
من المتوقع أن يزداد عدد المصابين بفيروس كورونا المستجدّ في الأسابيع القادمة، لاسيما مع حلول رأس السنة الصينية الجديدة الشهر المقبل، إذ يتوقع أن ينتقل مئات الملايين من الصينيين إلى مسقط رأسهم للاحتفال مع أقاربهم. ومن المتوقع أيضاً أن يواجه الاقتصاد الصيني خلال الأشهر القادمة صعوبات مع ازدياد الاصابات بالفيروس بين العاملين وإغلاق المصانع الأمر الذي سيؤثر سلباً على سلاسل التوريد العالمية، على أن يبدأ الاقتصاد الصيني بالتعافي  بعد ذلك ما يؤثر ايجاباً على الاقتصاد العالمي .
الصين الآن في موقف لا تحسد عليه خاصة أنها بلد المليار ونصف إنسان ، وحاولت لفترة طويلة الحفاظ على أرواح عدد كبير من الناس، ولكن قد تبين أن سياسة “صفر كوفيد” ، على الرغم من أنها نجحت في الحد من الاصابات والوفيات، إلا أنه من غير المعقول الاستمرار في اتباع هذه السياسة لفترة طويلة لما خلّفته من أضرار على الاقتصاد الصيني من جهة والناس من جهة أخرى، لذلك ارتأت بكين التأقلم مع الفيروس على غرار بقية دول العالم.
إن سنة 2023 في التقويم الصيني هي سنة الأرنب والذي يدل على النجاح والنشاط، فهل ستكون سنة 2023 كذلك؟

نقلا عن رأي اليوم 

جمعة, 30/12/2022 - 15:48