التوق إلى العبودية

أحمد فال الدين

لاحظ أبو عثمان الجاحظ (ت 244 هـ) خلال تأمله في طبقة الخصيان في البصرة أن أفرادها يضيقون بالحرية والمعاملة الكريمة، وينزعون للاستخذاء للأقوياء الأثرياء. فنبّه إلى أن الخادم الخصيَّ يحب من مالكه أن يكون قويا ذا مال وفير، وإنْ أهانه وأجاعه. ويكره منه الرفقَ وتوسطَ الحال وإنْ أكرمه وأطعمه. يقول محللا نفسيات الخصيان في المجتمع البصري:"ويعرِض له حبُّ أنْ تملكَه الملوكُ على أَلا تقيمَ له إلاَّ القوتَ. ويكون ذلك أحبَّ إليه من أنْ تملكَه السُّوقةُ وإنْ ألحقتْه بعيشِ الملوك". (الحيوان، ج 1/ 105). 
فنفسية الخصي –التي شوهها الظلم الاجتماعيُّ بسبب المُثلة الشنيعة- قادتْه للمهانة عند نفسه حتى غدا يحب أن يُملك، ويعشقَ سلب الإرادة، ويضيق بالانطلاق والانعتاق. ولا جَرَمَ أن سبب هذا المنزع نفسي مرضي بحت. فهذه الطبقة المظلومة التي كانت تُخصى صغارا في أوروبا والحبشة (يصرح الجاحظ أن كل خصاء في الدنيا يقوم به المسيحيون في أروبا والحبشة فقط) وتجلب للعراق كانت تعاني أزمات نفسية بسبب الجناية التي مورستْ عليها. وهي جناية لا يمكن تلافيها ولا علاجها. فتشوهتْ لذلك نفوسها وفقدت بعض الميول الآدمية الطبيعية. وصارت –كما لاحظ الجاحظ- طبقةً مستخذية تحب القيود وأن يملكها الملوك. ويلاحظ الجاحظ أن احترام أحد هؤلاء للقوي يوازيه احتقاره الحارق  للضعيف: "ويعرض للخصيِّ شدَّةُ الاستخفاف بمن لم يكن ذا سلطانٍ عظيم أو مال كثير أو جاهٍ عريض". (الحيوان، ج1/ 105). 
تذكرت هذه القصة قبل أيام وأنا أطالع ما كتبه بعض "المثقفين" العرب من مدحٍ للاستخذاء والطاعة العمياء للملوك؛ والذم لأي ميل بشري للكرامة الآدمية. ثم إني رأيت أحد أولئك"المثقفين" يكتب باكيا على كون الأمة الإسلامية لا تملك بابا (مثل بابا الكاثوليكية) يتولى عنها التفكير في أمور دينها، ولا مرشدا أعلى  يقضي في شؤونها.
وقد بهتتُ محاولا فهم التشوهات النفسية التي تجعل إنسانا يستمتع بأن يُملَك، ويضيق بعزّ الخِيَرة والحرية، ويحلم بالسدود والقيود. وخطر لي أن هذه النفسيات لا تتأتى إلا من جرح غائر في الشخصية، وتشظٍّ في النحيزة، وأن أصحابها أجدرُ بالرحمة والشفقة من العتب واللوم.
لقد انتبه ابن خلدون (ت 811 هـ) إلى أن الإنسان تنقبض يدُه عن العمل ويكسل عن الإنجاز الحضاري إذا نقصتْ حريتُه وتقيدتْ إرادته وتحكّم فيه غيرُه، فكيف يسعى لها طوعا؟. وعلل ذلك بأن الإنسان مفطور على الرئاسة والقيادة فطرةً من الله لمهمة الاستخلاف المُودَعةِ في قلبه. وذلك "لأن الإنسان رئيسٌ بطبعه بمقتضى الاستخلاف الّذي خُلق له. والرّئيسُ إذا غُلبَ على رئاسته وكُبح عن غاية عِزّه تكاسل حتّى عن شبع بطنه وريّ كبده. وهذا موجود في أخلاق الأناسيّ، ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنّها لا تُسافد إذا كانت في ملكة الآدميّين". (المقدمة، 73).
فالناس الطبيعيون ( رجالا ونساءً، وحتى بعض الحيوانات الأبّاءة للضيم) لا ترضى بيدٍ فوقها أو أي تحكم فيها، فكيف يصبح البشر الأسوياء مُروجي استخذاءٍ وعبّادَ سلطان مع إمكان التحرر. فالبشر فُطروا على الحرية: في جوها ينعمون بالانطلاق، ويتمكنون من الإنجاز، وذلك لانفساح أملهم، وامتلاكِهم للوجهة وتحكمهم في مصائرهم. فإذا ما خضعوا لسلطان ظالم ينتقص كرامتهم ويحد من حرياتهم، ضاق أملُهم وخبُثتْ سرائرُهم وأظهروا أسوأ ما فيهم، وانقبضت أيديهم عن العمل فخرب العمران.
وهنا نتساءل: ما الداء الدفين الذي يعاني منه هؤلاء المثقفون المولعون بأن يُملَكوا؟ الخائفون من انبساط الحريات، المتوجسون من بروز الناس إلى بَراح الكرامة الآدمية الفسيح؟
إنني لا أشك أن السبب داء دفين يحتاج دراسات نفسية واجتماعية متأنية. ويبقى على القوم أن يفهموا أن مثل هذه الأمور والنوازع تعالج في هدوء المصحات النفسية لا في المجلات وميادين الفكر والسياسة. فمن لديه مشكلة نفسية مستعصية تقوده لعبادة القوة عليه التعاطي معها منفردا أو مع طبيب، لا أن يحولها إلى مذهب سياسي أو مَحيكةٍ أخلاقية يُجيّش لها الناسَ ويُقنع بها الأصحاء الأسوياء.
إن الإنسان –بما هو إنسان- لا يسعى للعبودية والحريةُ سانحة له، ولا يميل للبهيمية الصمَّاء وبَراح الإنسانية مبذول له إلا لعاهة. فنحن –معاشر البشر- "لا نولد أحرارا فقط، بل نولد راغبين في الدفاع عن حريتنا كذلك" كما يقول إيتان دو لا بويسي في "العبودية المختارة". وعليه، فكل توقٍ للبهيمية مرض، وكل نزوع للوقوع تحت أحذية الجنرالات داء، وكل عبادة مجانية للملوك نذيرٌ بتشوه و"فسادٍ في معاني الإنسانية" على اللغة الخلدونية .
* المقال منشور قبل عام في "تي آر تي" وموجود رابطه في التعليق أدناه.

خميس, 05/01/2023 - 13:09