لن أتوقف عند الثغرة أو الثغرات التي مكنت السجناء من الفرار من السجن المركزي الذي يعد من بين أكثر السجون الموريتانية حراسة نظرا لخطورة نزلائه، كما لا يمكن ببساطة تصور الثغرة التي سمحت بنجاح عملية الفرار حين نستحضر الموقع الأمني للسجن الواقع وسط منطقة عسكرية تجمع قيادتي أركان، وإدارة الجمارك.
بعيدا عن الثغرات الواردة منطقيا، وغير المبررة عمليا، سأحاول هنا؛ أن أجد لنفسي أجوبة على أسئلة تراودني كأي شاب كان ذات يومٍ مشروع مفتش شرطة أو ملازم دركي ضمن جملة أحلام وتمنيات راودت كثيرا من الشباب في فترات محددة.
كما سأحاول أن أجد تفسيرا لسيل من الأسئلة تتردد في ذهني كأي مواطن مهتم ومعني بفرار سجناء خطرين يشكلون تهديدا مباشرا للأمن العام.
تقول الرواية المتداولة غير الرسمية طبعاً، إن المطلوبين أوقفوا سيارة تويوتا من نوع آفنسيس زرقاء اللون لحظة خروجهم من السجن بعد الاعتداء الغاشم والعنيف على عناصر الحرس الوطني.
لحظة الخروج تلك؛ استقل المطلوبون حسب ذات الروايات المتداولة تلك السيارة الزرقاء بعدما أنزلوا سائقها عنوةً، وتوجهوا بها صوب منطقة المطار القديم بسرعة مفرطة.
لاحقاً وبعد حدود ساعة ونيف، تم تداول مقاطع فيديو على وسائط التواصل الاجتماعي للسيارة -وسيلة الفرار- قرب ملتقى طرق شارع المقاومة في مقاطعة دار النعيم بعد إصابتها بعطل ميكانيكي، عطلٌ لم تهتم الروايات بطبيعته، وهل هو نتاج تصادم مع سيارات أو حائط أو سقوط في حفر، أم عطل بسبب الضغط الزائد على المحرّك، أم كسر أو انفصال في أحد ناقلات الحركة.. الخ، فمن خلال نوع العطل، يمكن ربما تحديد الطريق الذي سلكته السيارة، أو تقريب المنطقة التي عبرت منها.
بعيدا عن هذا الغوص “الشارلكهومزي” في تفاصيل أسباب تعطل السيارة ومنطقة عبورها أو مسارها الذي سلكته، يباغتني سؤال وارد جدا يدفعني لتوقيف الزمن ذهنيا لبرهة، وأتساءل بشكل مباشر:
كم شخصاً نزل من السيارة في لحظة التعطّل تلك؟
شهود العيان المزعومين حسب ما نُقل على وسائل التواصل رغم تضاربه، لم يتحدثوا عن عدد أشخاص محدد، فالبعض يقول إنه شاهد أشخاصا دون تحديد عددهم يفرّون غرب الشارع، والبعض لم يشاهد أحدا، كما لم يشاهد ما يوحي له بأمور غير اعتيادية!
هذا التضارب في الروايات، وهذا المشهد المبعثر الفوضي في مُجمله يبعث على محاولة تخيّل المشهد من بدايته، ويطرح عدة أسئلة أخرى.. كم شخصاً كان في السيارة لحظة تعطّلها؟ وهل تفرق الهاربون قبل ذلك في إطار عملية تمويه؛ فنزلوا من السيارة الزرقاء تلك، وتسللوا عبر أخرى أو فروا على أرجلهم، بينما تولى طرف آخر بالتنسيق معهم توصيل السيارة إلى دار النعيم من أجل حبكِ عملية التمويه وتضليل المُطاردين؟
لكن؛ هل هذا افتراض منطقي؟ لا أعلم.
عموما.. أتصور أن المطلوبين لن يرجحوا الهروب إلى الأحياء الشعبية، فتلك مكشوفة عمليا بسبب التداخل والتقارب بين السكان وترابط الجيران، إضافة إلى حشر أصحاب الدكاكين؛ خاصة “الوگافة” النبلاء أعزّهم الله أنوفهم في كل شيء، فعندما يشتري جارٌ ما خمس خبزات بدل الخبزات الثلاث المعتادة، سيعرف “الوگاف” مباشرة أن لديك ضيوفاً، وقس على ذلك في حال شراء كميات غير معتادة من الحاجيات الغذائية، إضافة إلى ذلك، فعدم الشراء من الدكان المجاور وسط مشاهد الذهاب والإياب سيثير الريبة لدى ذلك الكائن الجاهز كمشروع مراقبة متقدّم وُلد مع نشأة المدن والأحياء السكنية.
أعرف أن البعض سيعتبر هذه النقطة تسطيحا أو تنكيتاً، لكنها تفاصيل حيّة وتقاليد دُكّانية لم تستطع عاديات الزمن دحرها، فصاحب الدكان يعرف علاقة أي بنات الجيران أو سيداته بذلك الشخص الذي يزور الحي بشكل شهري أو سنوي، وربما هي مناسبة للدعوة إلى الاهتمام بأدب الدكاكين وطقوسهم التي يجب أن لا تبقى طي النسيان.
غير بعيد من هذا، وفي جانب آخر من الأسئلة والتصورات المتراكمة حول هذا الموضوع، لنفترض أن طرفاً ما خارج السجن خطط مع المطلوبين لعملية الهروب، وهو من قام بتأمين الإقامة وحاجياتها، فهل سيختار حياً شعبيا مزدحماً؟
شخصيا لا أعتقد ذلك، ربما الأحياء الأخرى أكثر أماناً له.
بعيدا عن سيل الأسئلة المبعثرة هذه، هل يمكن أن يفرّ المطلوبون خارج العاصمة؟
محاولة خروج العاصمة مخاطرة كبيرة جدا، فالخيار الوحيد المتاح هو عبر الطرق المعروفة، طريق أمل - روصو - أگجوجت، وأي محاولة للخروج عن أحد هذه الطرق قبل ثلاثين كلمترا تقريباً خارج العاصمة على حد علمي ستكون محاولة فاشلة، ثم إن ذلك قد يستغرق ثلاث ساعات وأكثر بسبب وعورة تلك المسالك، وهو ما سيمكن الأجهزة الأمنية والعسكرية من الانتشار كليّا قبل قطع المسافة التي تجبر سالكها أحيانا على العودة عدة أمتار، وأحياناً كلمترات بسبب الرمال أو الحفر أو المطبّات الصعبة..
بين كل هذه الأسئلة وأنصاف أجوبتها، والعجز عن الإجابة عليها رغم سعة خيال الموريتاني وإخراجه البوليوودي، يُطرح سؤالٌ مهم.
من أدخل السلاح إلى الإرهابيين على افتراض صحة هذه الرواية؟ من جلب ذلك السلاح أصلاً إلى مبنى السجن؟
الجواب على هذا السؤال ربما يحدد ملامح خطة الفرار، وفي أقلّ تقدير يحدد رأس خيطها المفتول!
هذا السؤال رغم مركزيته، هناك سؤال آخر أكثر أهمية منه يدور حول ما يمكن أن يقوم به أولئك الإرهابيون؟ وما هي أهدافهم؟
هل يسعون للخلاص من السجن أو القيام بعمليات مجرّمة قانوناً وشرعاً؟
لا شك أنهم لن يتراجعوا عن الرد تحت أي ظرف تتم مداهمتهم فيه، ولا أحد يدري من هو الضحية المقبل، عسكري أثناء تلبية الواجب أو مدني عابر، سيدة أم طفل.. رجل مسن أو شاب في مقتبل عمره!!
أعرف أن الفرضيات والاحتمالات كثيرة وواردة، وخاصة الجانب المتعلق بفرضية مشاركة التنظيم في عملية نقل وتأمين المطلوبين، وليست هذه الفرضية سوى فرضية واحدة من بين مئات الفرضيات المطروحة.
ولنتساءل أيضا.. كيف تمكن ذلك السجين الذي فرّ سابقا من الفرار هذه المرة رغم وجود عناصر حرسية كانت حاضرة ومشرِفة خلال عملية الفرار الأولى؟
معطيات دقيقة أعرفها ويعرفها الكثيرون هنا -لا أريد الخوض فيها- لحساسيتها ربما، تزيد الأمور تعقيدا وتشعباً، وتطرح كما إضافيا هائلاً من الأسئلة حول عملية الفرار هذه.
ثم أين موقع جهاز الحرس في عملية المطاردة؟
جدير بالذكر أن من بين الأربعة الفارين مدانيْن بالإعدام، هما السالك ولد الشيخ المشارك في عملية استهداف نواكشوط بسيارة ملغومة تمكن الأمن حينها من تفجيرها جنوب نواكشوط عام 2011، كما سبق للسالك التمكن من الفرار من السجن نهاية العام 2015 قبل أن يتم القبض عليه في غينيا بيساو وإعادته للسجن، أما المدان الثاني بالإعدام فهو محمد ولد اشبيه المشارك في عملية تورين الإرهابية عام 2008 والتي أودت بسقوط 12 شهيدا عسكريا ثم التمثيل بجثثهم وسلب أغراضهم.
وعملية تورين الإرهابية هي واحدة من أبرز العمليات التي نفذها التنظيم الإرهابي في موريتانيا دون الإمساك بعناصرها آنذاك.
أدام الله أمننا وحفظ قوات بلادنا، ورحم الله شهيدي السجن، وكل شهداء الوطن والواجب.