اكون كاذبا حتى العظم ان لم اقل انني بعد اربعين عاما من رحيلي عن بغداد ما زلت احن اليها مثل ام رؤوم تحف بابنها الذي يتهدده خطر عظيم وما زلت اتساءل كيف لمن عاش سنينا اربع بين الكرخ والرصافة والاعظمية والمنصور وباب المعظم والقيارة وابو نواس والكاظمية والموصل والبصرة كيف له ان يترك باب النسيان مفتوحا على مصراعيه مشرعا لكي تهرب الذاكرة من سجونها وتبوح او تنسى قليلا او تسهى عن ليالي الوزيرية وايامها وياسمينها الذي يفوح شذى في مساءات نيسان .
وكيف لنا ان ننسى ما كان يردده رفاقنا في الجامعات وهم يستقبلوننا من كل قطر عربي ننهل علما صافيا لم تلوثه بعد حضارة العم السام ولا قتلت فيه الروح المتوثبة اليعربية المتجددة حين كان نداء الرفاق …(خطية الطلبة العرب) يترجم على شكل تجمعات فيها ما لذ وطاب من خيرات العراق العظيم يتسيدها الدولما والمن والسلوى .
كيف لي بعد اربعين عاما من رحيل موجع ان انسى لقاء جمعني في اتحاد الطلبة مع الشاعر الكبير الراحل عبدالرزاق عبدالواحد في امسية شعرية كان هو سيدها كعادته وكنت التلميذ الخائف الوجل المتردد الذي يلقي على مسمعه شعرا لكنه رحمه الله يقف وسط الجموع ويربت على كتفي قائلا….. ابدعت .
كيف لي ان انسى ايام المربد الشعري في فندق المنصور وذلك الحشد النسائي الذي كان يسأل بلهفة عن الشاعر نزار قباني الذي يسكن الطابق السابع من فندق المنصور .
وكيف لي ان انسى الشاعر عبدالله البردوني حين القى قصيدته عن صنعاء وحين صعد الى المنصة بهندامه المتواضع وعينيه المغمضتين ليدور بين الجمهور همس عن القادم والذي ما ان شرع في قصيدته حتى وقفت القاعة كلها محيية طالبة المزيد وبصوته المتهدج يردد
مَـــاذَا أُحَـــدِّثُ عَـــنْ صَـنْـعَـاءَ يَـــا أَبَــتِـي ؟
مَـلِـيـحَـةٌ عَـاشِـقَـاهَـا : الــسِّـلُّ وَالــجَـرَبُ
مَــاتَــتْ بِــصُـنْـدُوقِ «وَضَّـــاحٍ» بِـــلاَ ثَــمَـنٍ
وَلَـمْ يَـمُتْ فِـي حَـشَاهَا العِشْقُ وَالطَّرَبُ
كَــانَـتْ تُــرَاقِـبُ صُــبْـحَ الـبَـعْـثِ فَـانْـبَـعَثَتْ
فِـــي الـحُـلْمِ ثُــمَّ ارْتَـمَـتْ تَـغْـفُو وَتَـرْتَـقِبُ
لَـكِـنَّـهَا رُغْـــمَ بُــخْـلِ الـغَـيْـثِ مَـــا بَـرِحَـتْ
حُـبْلَى وَفِـي بَطْنِهَا «قَحْطَانُ» أَوْ «كَرَبُ»
وَفِـــي أَسَــى مُـقْـلَتَيْهَا يَـغْـتَلِي «يَـمَـنٌ»
ثَــــانٍ كَــحُـلْـمِ الــصِّـبَـا… يَــنْـأَى وَيَـقْـتَـرِبُ
«حَـبِـيبُ» تَـسْأَلُ عَـنْ حَـالِي وَكَـيْفَ أَنَـا؟
شُــبَّـابَـةٌ فِــــي شِــفَــاهِ الــرِّيــحِ تَـنْـتَـحِبُ
كَــانَـتْ بِــلاَدُكَ «رِحْــلاً»، ظَـهْـرَ «نَـاجِـيَةٍ»
أَمَّـــــا بِـــــلاَدِي فَـــــلاَ ظَـــهْــرٌ وَلاَ غَـــبَــبُ.
وكيف لي ان انسى مذيع التلفزيون وهو يطل علينا بعد كل انتصار على قوى الظلام القادمة من الشرق ويقول …لقد انتصرنا وليحتفل كل منكم على طريقته الخاصة .
بعد عام ٢٠٠٣ يحق لي ان اتساءل انا العربي الموغل في عروبته ماذا تبقى لنا بعد كل هذه السنين العجاف التي نوست قمر الرصافة واطفأت شمس الكرخ ماذا تبقى لنا من تلك الذكريات سوى كمشة صور تلوذ في اطراف البوم قديم .
ماذا تبقى لك يا عراق بعد هذا الزمن الذي لا يعرف فيه القاتل لم قتل ولا يعرف فيه المقتول بأي ذنب رحل وكيف( لتسواهن) حرة الاهوار التي امتشقت بندقيتها ان تنسى بكل هذه القساوة .
سلام الله عليك يا بغداد يا حبيبتي التي خبأت صورتها عن العذال ما بين الضلوع وقلت هنا مكانك فأستريحي
سلام الله عليك يا عراق الذي لم تكسر له عينا وقد اصطفت الدنيا بكاملها لكسرها واوصيك يا صاحبي بكل رسائل العشاق التي ما زالت مخبأة تحت جدائل نخلة لم تزل ترتوي من شط العرب .
نقلاعن رأي اليوم