خلف كل صورة للرئيس، أثناء تدشينات العمران والإسكان، خلال السنوات الأخيرة تظهر تلك الأربعينية السمراء .
حضورها الثابت في الصور الرسمية، وفي الأنشطة الرئاسية في العاصمة أضفى على وجهها ألفة لدى المشاهدين والمتابعين.
يعرفها أيضا سكان العاصمة من غير متابعي الإعلام والأنشطة الرئاسية، لكن الوجه أكثر ألفة لدى من عانوا خلال العقود الماضية مشاكل مع السكن في عاصمة تضاعف سكانها ومساكنها في ظرف وجيز.
مهندسة الإنجازات
مع نمو العاصمة نواكشوط، تنمو العشوائيات، وتنتشر النزاعات، وتتشعب لدى المحاكم وفي أروقة الإدارة الإقليمية؛ فبين كل قضيتين لدى المحاكم واحدة تعني النزاعات العقارية، وبين كل بضعة شكاوى لدى السلطات الإدارية يوجد ملف قطعة أرض متنازع عليها.
في غابة المصاعب هذه قذفت الأقدار بدكتورة البيئة وعلوم الأرض، خريجة مدارس المهندسين بفرنسا، ميمونه بنت أحمد سالم، منذ شهر يوليو 2020.
"إذا تعقدت مشكلة فابحث لها عن مهندس"، يبدو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وضع هذه القاعدة نصب عينيه أثناء التفكير في حل المعضلة العمرانية بالعاصمة نواكشوط، فوقع اختياره على مهندسة بترول، ثلاثية الاختصاص؛ فهي خريجة المعهد الفرنسي للبترول، ومهندسة في نظم المعلومات والاتصالات من جامعة التكنولوجيا بمدينة تروا الفرنسية، تحمل شهادة الدكتوراه في البيئة وعلوم الأرض من جامعة ابن طفيل في مدينة القنيطرة قرب العاصمة المغربية الرباط.
تبنى الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني منذ مجيئه إلى السلطة سياسة اجتماعية متعددة المحاور، جاعلا من أركانها إنهاء العشوائيات. هذا الهدف الذي يبدو بعيد المنال في عاصمة تناسلت فيها "الكزرات" واتسعت رقعتها طيلة ثلاثة عقود من الزمن، جعل الرئيس الذي يختار معاونيه بعناية لا تهمل أي تفصيل، يبحث عن مواصفات لم تتوفر في كثيرين.
لم يكن سهلا أن يوجد إطار فني على علاقة بمجال العمران، يتحلى بمستوى النزاهة المطلوبة في قضاة النزاعات العقارية، وحصافة محترفي السياسة، ولياقة المصلحين الاجتماعيين، لكن الباحثين عن ضالة الرئيس وجدوا الأمينة العامة لوزارة الصيد والاقتصاد البحري.
وجدت الشابة المنحدرة من بلدية التيشطيات بولاية الترارزة نفسها مسؤولة عن عشرات الآلاف من الملفات المتعلقة بالإسكان ، لكن المهندسة التي اعتادت ترتيب ملفاتها منذ الصغر بأناقة، لم تغير ابتسامتها الهادئة، حين قررت أن تحل كل المشاكل المرتبطة بتلك الملفات وتبدل سمعة الوكالة إلى ما هي عليه الآن.
إصغاء القادة
يقولون إن أفضل سمات القائد هي القدرة على الإصغاء. أدركت الحاسة القيادية الثاقبة لمهندسة الإنجازات والتحول العمراني، بسرعة أن اتخاذ الإصغاء سياسة هو ما تحتاجه ملفات العقار المتراكمة في مكتبها، ذي النافذة الوحيدة؛ فقررت أن تجعله مكتبا للاستماع إلى أصوات الناس، إلى شكاواهم، إلى شكلهم المتراكم مع ملفاتهم وقضاياهم.
استعادت أوراق الوكالة قيمتها، وأصبح لحيازة الأوراق معنى الأمان على ملكية الأراضي، لكن الأهم أن المواطن أصبح مقتنعا بأن النزاع الذي يصل مكتب المديرة سينتهي بنيله حقه، غير منقوص.
منذ أن جلست في ذلك المقعد وهي تعالج يوميا عشرات الملفات؛ كادت تصل في العام 2022 إلى معدل سبعين ملفا في اليوم الواحد. توقع الملفات أثناء الاستماع، فتكسب بذلك الوقت والجهد، معتبرة أن هذه ميزة للمرأة. في هذا العام وحده سوت الوكالة 15 ألف نزاع، وسوت وضعيات 5 آلاف أسرة كانت تحوز أراضي حيازة غير شرعية، وصححت وثائق ملكية لـ35 ألف أسرة. وتم التعويض لـ5500 عائلة، وتم نقل وتسكين 800 أسرة الكلم 13 قادمة من الميناء. هذا علاوة على تسجيل بيانات 155 ألف قطعة أرضية.
هل سمعت بهذه الأرقام؟ هل قرأتها في زي مكان آخر؟ إنها مجرد أمثلة من عمل المهندسة في أحد أعوامها في قيادة وكالة التنمية الحضرية.
الإدارة بالطموح
تعددت روافد الطموح لدى الفتاة التي ترعرعت في بيت هادئ بإحدى بوادي مدينة الركيز، ومن أبويها استقت القيم الأولى، وتربت على أن التعليم الجيد يصنع الإنسان الجيد. أنهت كل مراحل الدراسة بتفوق، لم يصاحبه أي مركب نقص، مما أسهم في موقف متوازن من المظالم التاريخية في البلد. شعرت مبكرا أن عليها واجبا تجاه شريحة المغبونين، فكانت إحدى الطالبات الناشطات في أي مكان تذهب إليه؛ في فرنسا وفي المغرب وقبلهما في الثانويات الموريتانية.
طموح الفتاة القادمة من ضواحي مدينة الركيز أقنعها أن ما تبغيه لا يكون إلا بانخراط واع في الشأن العام، وأن الدولة بحاجة إلى كل أبنائها؛ فلم يستقر بها المقام في الشركات الأجنبية، أو لبنك الدولي أو الاتحاد الأوروبي، ولا في الأمم المتحدة، والاتحاد الإفريقي. رغم المغريات، فاختارت أن تكون موظفة في القطاع الحكومي. تقلبت سريعا في مناصب إدارية رفيعة في وزارة الاقتصاد، ثم وزارة الصيد، ما جعل حسها الاستراتيجي ينمو مبكرا.
استفادت من تلك التجربة فجعلت نصب عينها إنهاء عصر العشوائيات في العاصمة نواكشوط.
وها هي بعد ثلاث سنوات من مواصلة العمل تكاد تلامس حلمها، فقد تمت تسوية كل الملفات الكبرى، ويمكن للرئيس الذي وضع ثقته في أحلام الفتاة السمراء أن يقول إن عصر العشوائيات قد انتهى في العاصمة نواكشوط.
في أتون السياسة
مع انخراطها المبكر في الأغلبية وجدت بنت أحمد سالم نفسها في قلب العواصف السياسية؛ فهذا الوجه المألوف لنساء العشوائيات والأحياء غير المستقرة، والذي اكتسب مصداقية لم يدنسها شيء خلال عدة سنوات، هو خير من يتقدم لنيل ثقة الناخبين. في كل مرة يُحتاج فيها إلى الأصوات توضع بنت أحمد سالم على رأس إحدى اللوائح المهمة؛ فتضيف عبء الحملة إلى أعباء أعمالها الإدارية، وتتقلص مساحة الراحة الضيقة أصلا في حياتها.
بهذا المنطق توفق بين العمل على رأس وكالة يرتادها يوميا عشرات المراجعين، وبين قيادة اللائحة الجهوية للنيابيات في ولاية نواكشوط الجنوبية، عن حزب الإنصاف. ترفض بنت أحمد سالم ترك عملها الإداري، أو التأخر في أداء الواجب السياسي، الذي تظنه الإطار المناسب لطموحها الوطني.
أثناء بحث حزب الإنصاف عن الشخصيات ذات الوزن الانتخابي في استحقاقات مصيرية، لم يجد أفضل من ميمونه لتقديمها لثقة الناخبين، ولكنه سيكون بحاجة إلى أدائها الإداري والقيادي، وإلى استكمال المسيرة التي بدأتها في وكالة التنمية الحضرية والراجح أنه سيكون لها شأن في المناصب القيادية للدولة في السنوات القليلة القادمة.
عبد الله حبيب الله