الدولار الأمريكي: قصة الصعود والهبوط

سعيد الشهابي

ليس واضحا بعد مدى فاعلية التحركات الهادفة لتجاوز الدولار الأمريكي في المعاملات الدولية، فبرغم ما يقال عنه لا يزال المعيار المالي الأقوى في التعامل التجاري بين القارات. هذا لا يعني أن لديه القدرة على الاحتفاظ بهذا الدور إلى الأبد، خصوصا مع صعود قوى اقتصادية كبرى تهدد الهيمنة الأمريكية على الأسواق التجارية والمالية الدولية. فبالإضافة للصين وروسيا والهند والبرازيل، هناك اقتصادات أخرى قادرة، لو اجتمعت، على طرح منافسة اقتصادية حقيقية للنظام المالي الذي هيمن على  العالم منذ عقود.
يقول المحلل الفرنسي رينو غيرارد: «إنّ الأمريكيين استخدموا عملتهم أداةً للضغط السياسي على دول أخرى، الأمر الذي دفع إلى حركة عالمية للإطاحة بالدولار». والسؤال المهم هنا: ما مدى قدرة هذه الحركة على الاستمرار في هدفها، وما حجم حظوظها في تحقيق ذلك الهدف؟ ربما من الصعب الإجابة بشكل حاسم على ذلك التساؤل، لكن الأمر المؤكد أن تلاشي الثقة العالمية بالعملة الأمريكية تجاوز الافتراض وأصبح حقيقة ملموسة مقلقة لمسؤولي الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. فهذا الاحتياطي يستفيد كثيرا من توجه حكومات العالم لإبقاء احتياطاتها بالعملة الأمريكية، وهو أحد عوامل قوته. فبرغم محاولات تهميش الدولار ما تزال دول منظمة «بريكس» التي تضم كلا من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تحتفظ بالدولار لاحتياطاتها المالية. هذه السياسة وفرت للولايات المتحدة مجالا للاستفادة الاقتصادية من عملتها، فضاعفت اقتراضاتها لسد عجوزها المالية السنوية حتى تجاوزت ثلاثين تريليون دولار، وأبقت الفوائد المترتبة على تلك القروض منخفضة. وبذلك وفرت لمواطنيها مستويات حياتية عالية.
ولكن هذا الإفراط في استغلال اعتماد اقتصادات العالم على الدولار أصبح أحد عوامل انحداره لأسباب أخرى. ومن أهم هذه الأسباب توسيع الإدارات الأمريكية الاستفادة من تكدس أموال العالم بعملتها، فانتهجت سياسات تسييس غير مسبوقة، الأمر الذي يعتقد الاقتصاديون أنه سيؤدي إلى تخلي العالم عن هذه العملة تدريجيا، برغم الصعوبات التي تعترض تلك السياسة. وفي العشرين عاما الأخيرة بالغت واشنطن في فرض العقوبات على كل من اختلفت معه من الدول والأفراد، وفرضت عليهم عقوبات اقتصادية أهمها تجميد استثماراتهم في العملة الأمريكية. فمثلا لا يمر شهر أو شهران حتى تصدر إدارة البيت الأبيض عقوبات على الدول المناوئة لسياساتها خصوصا إيران، وعلى أشخاص من بلدان عديدة لأسباب خاصة بواشنطن. ويرى الاقتصاديون في ذلك خطأ فادحا ترتكبه أمريكا ليس بحق الجهات التي تتعرض للعقوبات فحسب، بل للهيمنة الأمريكية على الأسواق المالية العالمية نفسها. فما الذي تستفيده الدول من الاحتفاظ بالدولار إذا كانت استثماراتها ستتعرض بين الحين والآخر للتعسف الأمريكي والعقوبات؟ في السنوات الأخيرة بدأت واشنطن فرض عقوبات على مواطنين في دول صديقة مثل السعودية، الأمر الذي دفع حكومتها للتفكير في تسوية تجارتها بعملات أخرى بخلاف الدولار الأمريكي (مثل اليورو، أو الريال أو غيرها). وتم الإعلان عن ذلك من قبل وزير المالية السعودي، محمد الجدعان، خلال مشاركته في الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي بدافوس في يناير 2023. ويرى معظم التقديرات أن التصريحات السابقة تعكس استعداداً جدّيّاً من الرياض لقبول التعامل باليوان الصيني في تسوية جزء من المعاملات التجارية، وخاصة المعاملات النفطية، وذلك باعتبار أن الصين الشريك التجاري الأهم للمملكة. وفي حال تنفيذ ذلك فعلياً، فقد يدعم التوجه السعودي مساعي الصين نحو تدويل عملتها، وسيخصم تدريجياً من نصيب الدولار في المعاملات المالية والتجارية على مستوى العالم.

قدرة أمريكا على استيعاب مدّخرات العالم كان من أهم عوامل تنامي العولمة، وقدرة الدولار على الاحتفاظ بمكانته كأقوى عملة دولية

وليس جديدا القول بأن الدولار هو أساس الهيمنة الأمريكية السياسية في العالم، ولذلك فإن التداول حول مستقبل الدولار مرتبط بالسجال حول تصدع تلك الهيمنة. ويوما بعد آخر تتصاعد الأصوات المطالبة بالتخلي عن الدولار واستبداله بعملات أخرى. وفي زيارته الأخيرة للصين، تساءل الرئيس البرازيلي، لويس لولوا دي سلفا: «لماذا تُجبر كل دولة على التعامل بالدولار في تجارتها؟ من  الذي قرر أن يكون الدولار هو العملة العالمية؟». المشكلة أن البرازيل نفسها ما تزال متشبثة بالدولار في احتياطاتها النقدية. وبرغم أن هذه الدول طوّرت أنظمتها الاقتصادية بقدر من النجاح فإنها ما تزال معتمدة على العملة الأمريكية. وخلال الثلاثين عاما ما بين 1990 و 2020  التي توسعت فيها ظاهرة العولمة، كانت أمريكا من أكبر المستوردين في العالم، وسمحت لعجزها المالي بالتصاعد، واستمرت الدول ذات الاقتصادات السريعة  النمو في الادّخار بالعملة التي تحصل عليها من الخارج وهي الدولار.
وقامت باستثمار هذه المدّخرات في السندات والأسهم الأمريكية. ومن المؤكد أن قدرة أمريكا على استيعاب مدّخرات العالم كان من أهم عوامل تنامي العولمة، وقدرة الدولار على الاحتفاظ بمكانته كأقوى عملة دولية. ولذلك لا تستطيع دول «بريكس» إنهاء اعتمادها على الدولار باختيار عملة أخرى تتعامل بها، بل عليها أن تغيّر نمط تعاملها في ما بينها ومع دول العالم. فمثلا في العام 2021 كان 43 بالمائة من الدخل القومي للصين من الاستثمارات، وهو ضعف ما حققته الولايات المتحدة والدول الغربية. وبإمكانها تحويل جزء من دخلها القوم للاستهلاك الداخلي، وبهذا ستقلص فائض ميزانها التجاري الخارجي وسيقل استهلاك المنتجات المستوردة. كما تستطيع دول بريكس زيادة التجارة البينية بين دولها وزيادة الاعتماد على تبادل المواد في ما بينها، ثم بناء بنية تحتية مالية خاصة بها. فتغيير الأنماط الاقتصادية ليس أمرا سهلا، وقد اكتشفت بريطانيا صعوبة ذلك بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، فلم تستطع حتى الآن اعتماد أنماط تجارية جديدة بعد أن كانت معتمدة على تكامل اقتصادها مع أوروبا.
وما أكثر الانتقادات التي يطلقها مسؤولو المصارف وشركات الاستثمار لقرار الانفصال المذكور. وحتى ألمانيا ذات الاقتصاد الأقوى في أوروبا أصبحت تواجه صعوبات جمّة للتكيّف مع مصدر آخر للغاز بعد أن اعتادت على استيراده من روسيا، إذ أن إعادة تشكيل خطوط إمداد مختلفة تحتاج عقودا. بل أن الصين نفسها أقامت منظومتها التجارية مع شركائها الإقليميين على أساس التعامل بالدولار، فإذا أرادت التخلي عنه فعليها أن تبدأ بنقل جزء من احتياطاتها التي تتجاوز ثلاثة تريليونات دولار إلى العملات الأخرى، وهو أمر يستغرق فترة طويلة ما بين عقد وعقدين.
في هذا السياق يمكن طرح عدد من الأبعاد ذات الصلة بالعملة الدولية التي هيمنت على الاقتصاد العالمي. أولها: أن الدولار ما يزال عملة قوية ذات مرجعية دولية منذ أن أصبحت معيارا للعملات الأخرى. وبرغم تخلي إدارة الرئيس نيكسون في العام 1971  عن الذهب لدعمها فقد تميزت بالثبات وفرضت نفسها على النظام المصرفي الدولي نتيجة القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية الأمريكية. ومنذ ذلك الوقت فقدت سوق العملات العالمية التي أصبحت أكثر اعتمادا على الدولار منذ اتفاقية بريتون وودز بعد الحرب العالمية الثانية، صلتها الرسمية بالذهب. ثانيها: أن قوتها ليست ذاتية بل مستمدة من قوة أمريكا كدولة عظمى تملك من الثراء الشيء الكثير، ومن غياب البديل النقدي ومن اعتماد دول العالم عليها لضمان مدّخراتها واحتياطاتها النقدية واستثماراتها. ثالثها: أن القوة الاقتصادية الأمريكية ليست مطلقة، بل أنها تتضاءل بشكل مضطرد، فلم تعد الولايات المتحدة قادرة على تحقيق توازن ثابت بين الدخل والإنفاق، بل أصبح ميزان مصروفاتها سلبيا، بحيث أصبح الاقتراض لسد عجز الموازنات السنوية أمرا مألوفا. رابعها: أن الولايات المتحدة لم تستخدم الدولار كأداة لدعم هيمنتها الاقتصادية فحسب، بل حوّلتها إلى سلاح سياسي ضد مناوئيها.
ماذا يعني ما سبق؟ بضعة أمور يجدر تأكيدها: الأول أن الدولار ما يزال مهيمنا على الساحة النقدية الدولية بلا منافس، الثاني: أن هذه العملة ربما تجاوزت عمرها الافتراضي وبدأت مسارها نحو التلاشي، بموازاة ما تعانيه أمريكا من تراجع الهيمنة والتأثير على الصعيد الدولي، الثالث: أن تراجع دور الدولار وربما انتهاء دوره كأساس للتداول النقدي والادّخار والاستثمار على مستوى العالم أصبح أمرا مقلقا للأمريكيين بشكل أساس. الرابع: أن الهيمنة السياسية والعسكرية والاقتصادية (من خلال الدولار ونظام سويفت المصرفي) لن تستمر طويلا، وأنها بدأت طريقها للتلاشي التدريجي، بانتظار بروز عملات (او سلات عملة) بديلة. خامسا: أن نظام السياسة والاقتصاد الذي هيمن على العالم بعد الحرب العالمية الثانية يكاد يبلغ نهايته، ولم يعد السؤال عما إذا كان ذلك سيحدث، بل متى سيحدث؟

اثنين, 15/05/2023 - 14:16