لم يعد من خيار أمام السودانيين في خضم حربهم الداخلية المستمرة بلا توقف إلا البحث عن سلام تفرضه أي سلطة، أو جهة في غياب حكومة تهمين على قرارها، وبالتالي يعني عملياً غياب سلطاتها السيادية في الداخل، إلا من مواجهات دامية بين طرفي صراع يواصلان في عناد حربهما العبثية حسب وصفهما، فأصبح البحث عن حكومة تعبر عن دولة مستقرة تلعب دورها الحيوي في تسيير شؤون البلاد وتفرض هيبة الدولة وسلطة القانون أمراً تقارب صعوبته ويلات الحرب نفسها. وما معنى ألا تكون ثمة حكومة في حالة الحرب؟ في حرب استطال أمدها وغاب فيها صوت العقل وانسدت آفاق الحلول في الداخل والخارج؛ وبقيت مواجهات عسكرية يقودها الجنرالات من غير حسم من قبل طرفيها. ولم تفلح جهود الوساطات والمبادرات الإقليمية منها والدولية في وضع حدٍ لها وانتهت إلى حرب مفتوحة شاملة فاقت نتائجها كل التوقعات. فكيف يفكر المسؤولون بالمعنى الرسمي، أو السياسي لمن يديرون المعركة، أو أولئك الذين ينتظرون أن تميل كفتها لصالح طرف في إيقاف نزيفها. فمثلما تصعب الأسئلة تتعثر الإجابات إلا من خلال قراءة لما يدور في الحراك السياسي وفضاء الإعلام.
أن تتمكن القوى المدنية من التحرك الخارجي كصوتٍ يطرح الأزمة السودانية المستمرة لأربعة أشهر، سيضيف بعداً جديداً أي ستكون له درجة تأثيره في دائرة الصراع
الجولات التي يقوم بها ممثلو قادة قوى الحرية والتغيير (قحت) بمجلسها المركزي وبعض الشخصيات المستقلة في دول الجوار وإجراء مقابلات على مستوى رئاسات الدول والمنظمات الإقليمية والدولية والدبلوماسيات الغربية، بحثاً عن حل للأزمة بوقف الحرب بين الطرفين، كما يصرح قادة الوفد. وهو أول تكتل سياسي مدني يتشكل من الأحزاب السياسية المناوئة لانقلاب البرهان في 25 أكتوبر 2021، الذي وقع قبيل الحرب، مع الاتفاق الإطاري ومع الدعم السريع الذي أدى الخلاف حوله إلى التعجيل، وكان سبباً رئيسيا، كما ينسب الكثيرون على المستويين الرسمي والشعبي، إلى اندلاع الحرب. ومن جانب آخر يحسب هذا التكتل المدني ضمناً بممالآته لقوات الدعم السريع، كما يُتهم من قبل المكون العسكري الحاكم ومن ورائه قوى الإسلاميين أنصار النظام المخلوع. وفي ظل وجود آلة الحرب العسكرية كلغة حوار، تقف قوى الحرية والتغيير كقوى مدنية عزلاء لا تشارك في الحرب الدائرة، إلا بالمواقف السياسية والتصريحات في محاولة لإيقاف الحرب واستعادة الوضع إلى ما قبل 15 أبريل، قبل اندلاع الحرب التي تبدو كأمنيات مرغوب فيها أكثر منها حقائق واقعية، تحدد مسارها يوميات الحرب الجارية. إنها المرة الأولى التي يبرز فيها طرف خارج طرفي الصراع الجيش والدعم السريع كطرف ثالث وقوة مدنية تخاطب المنابر الإقليمية والدولية، بحثاً عن سلام يبدو عصياً في ظل غياب الحوار، أو اعتراف في الداخل من طرف الحكومة القائمة بضرورة الحرب، أو الأمر الواقع. ولكن أن تتمكن القوى المدنية من التحرك الخارجي كصوتٍ يطرح الأزمة السودانية المستمرة لأربعة أشهر، سيضيف بعداً جديداً أي ستكون له درجة تأثيره في دائرة الصراع. لقد ظلت وفود الطرفين المتصارعين تقوم بالجولات المكوكية حول دول الجوار والعالم تشرح وتستقطب دعماً دولياً، بما فيها دول مأزومة ومتورطة في جرائم حرب كروسيا. فقد تزامن انعقاد – بالترتيب أم بالمصادفة ـ قمة الإيغاد المنعقدة الاثنين في العاصمة الإثيوبية حضور قوى التغيير إلى جانب طرفي الصراع. والمعروف أن الأحزاب السياسية السودانية اعتادت خوض المعارضة منذ عقود طويلة أمام عهود الحكومات العسكرية المتطاولة من الخارج، غزواً وتفاوضاً وصلحاً، تنتهي مع النظم القائمة العسكرية إلى تفاوض على أسس قسمة السلطة والثروة والمشاركة. أما والمعادلة السياسية التي تشكلها حرب لا عقلانية، وضعت فكرة المعارضة أو الحوار أمام تحدٍ غير مسبوق. لقد طال غياب دور الحكومة بشكلها التقليدي في المشهد السياسي السوداني منذ أكثر من عامين، أو الراجح أن فوضى الصراعات السياسية التي أعقبت الإطاحة بحكم البشير لم تعد هناك حكومة، بل تعدد حكومات في فترة الحكومة الانتقالية، ما أدى إلى تصعيد سياسي فوضوي، بين إزالة عناصر النظام السابق، الذي ظل متمسكاً بمفاصل الدولة (الحكومة) وازدياد عودته عقب الانقلاب العسكري 2021، وقوة مدنية سياسية لا تملك الرصيد الشعبي الكافي. فهل توفق المقترحات البديلة لتكوين حكومة في ظل انهيار الدولة؟ وهل لدى قوى الحرية والتغيير التفكير في تكوين حكومة منفى لا للبلاد سابق تجربة بها يكون مقرها إحدى دول الجوار؟ دول الجوار التي مثلت عند بداية الحرب ملجأ للفارين من أتونها إلا أنها والمنظمات الإقليمية لا تملكان القدرة على التدخل لحل الأزمة السودانية، ولكن يمكن أن تمثل تأثيراً على مجرى الأحداث من النواحي اللوجستية لأطراف الصراع، إلا أن اللجوء إليها من قبل السياسيين بحثاً عن حل للأزمة، أو مقاربة سياسية توقف نزيف الحرب. فاللاعبون الأساسيون والراعون لمفاوضات الأولى يقعون خارج النطاق الإقليمي. ومما يذكر في موقف الحكومة السودانية وتوجسها من تحركات بعض دول الجوار في ملف الأزمة خاصة كينيا التي ترأس دول منظمة الايغاد، بل ورفضها وانسحابها من جلسات قمة الإيغاد أن اتفاقيات السلام المفصلية في تاريخه السياسي تمت في دول الجوار نفسها منذ اتفاقية أديس أبابا 1971 في إثيوبيا، وانتهاء باتفاقية سلام نيفاشا 2005 في كينيا التي أنهت حرب الجنوب، فالسودان جعلته الحروب بلداً يستجدي السلام من جيرانه في الماضي كما الحاضر. إن التركيبة السياسية لقوى المدنية ظلت على ما هي عليه في خانة المعارضة وحكومة انقلابية لا تملك حكومة متوافقا عليها، وربما كانت الحرب فرصة خففت عنها الضغط السياسي الذي مثلته المطالبة المدنية والضغوط الخارجية باستعادة المسار الديمقراطي في الداخل والخارج واستمدت شرعيتها من الحرب. وبينما القوى السياسية ممثلة في أحزاب وجماعات سياسية وغيرها من قوى لا تمتلك قوة في خضم صراع مسلح؛ تدرك أن الفرصة أمامها تكاد تنعدم لتوصل إلى صيغة تجعل من وجودها السياسي فاعلاً في المشهد السوداني، تحت حملة تخويِّن تشن ضدها على نطاق واسع. وباعتماده على رهانات دولية تقوم بالضغط على وقف الحرب فذلك أمر مطلوب بالدواعي الإنسانية، ولكن هذه الرهانات لا تحقِّق مطامح الجانب المدني في تصوره لسلطة أو حكومة تمثل ثورة 19 ديسمبر، أو ما ورد في اتفاقياتها ومواثيقها غير المنفذة، التي لم تعد مرجعيات سياسية في أجندة المرحلة الحالية، ومرحلة ما بعد الحرب. فالحكومات الطبيعية تنزع في ظل الحرب إلى فرض قوانين تحتما يعرف بحالات الطوارئ تسمح لها باستخدام تفويض واسع وتجاوز لكثير من الصلاحيات، عنها في ظل الأوضاع الطبيعية، منها اتخاذ قرار الحرب نفسه؛ إلا أن تندلع حرب داخلية في وجود حكومات وجيوش متكاثرة مؤهلة للحرب والفوضى، يدعي كل طرف فيها الحكومة وسلطتها تكون سلطة الطوارئ أولويتها القصوى دون الأولويات بما فيها السلام. لا يستطيع أي من الطرفين الاستمرار كحكومة تحكم مؤسسات تنتمي إلى دولة ذات تمثيل شرعي، إذا كانت حكومة البرهان بوزرائها المكلفين، أو قوات الدعم السريع الذي بدوره ببحث ـ كما يدعي ـ استعادة الحكومة الديمقراطية أو القوة المدنية بسلطتها السياسية التي تعتمد على الحراك الشعبي الشارع ولجان مقاومتها. فالفراغ الذي أحدثته الحرب على مستوى البلاد لا يعني فراغاً دستورياً قابلاً للملء من قبل أطراف سياسية لا تحكمها آلية تداول للسلطة في ظل انهيار شبه كامل للدولة بمعناها الحرفي. فالحرب وما أحدثته من شرخ لم يقتصر على الأضرار الهامشية في بنية الدولة، بل أحدثت شرخاً وتحولاً على مستوى البنية الاجتماعية والاقتصادية محولة الصراع من صراع على السلطة إلى صراع من أجل البقاء. وبات من الواضح الآن أن استمرار الحكومة الحالية (حكومة البرهان) مرهونة باستمرار الحرب مع الطرف الآخر الدعم السريع، أي أصبح تعريفها في ما بعد. ويبقى احتمال تكوين حكومة منفى في إحدى دول الجوار أمراً مستبعداً في حدود الإمكانيات المتاحة على المسرح الدولي والداخلي. فيبدو أن الحديث عن أي شكل حكومة قبل انهاء الحرب لم يزل مبكراً قبل إيقاف الحرب حديثاً يتنكر لحقائق الواقع في صراع لا تبدو نهايته قريبة.
نقلا عن القدس العربي